المساعيد يكتب: الأردن في مواجهة الضغوط الأمريكية: قيادة حكيمة تفرض سيادتها وترفض مخططات تصفية القضية الفلسطينية
عصام المساعيد
في لحظة حاسمة في الدبلوماسية الشرق أوسطية، عُقد الاجتماع الأخير بين جلالة الملك عبدالله الثاني والرئيس الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض، حيث تركزت المناقشات على الاقتراح المثير للجدل لإعادة توطين الفلسطينيين من قطاع غزة في الدول المجاورة، بما في ذلك الأردن ومصر، وإعادة تطوير غزة تحت السيطرة الأميركية.
لكن الرد الأردني كان واضحًا، حاسمًا، وراسخًا: لا لتصفية القضية الفلسطينية، لا للوطن البديل، ولا لحلول مفروضة على حساب الأمن القومي الأردني.
هذا التحليل يُقدم نظرة معمقة على التداعيات الاستراتيجية لهذا الاجتماع، وثبات موقف الأردن، والنتائج المتوقعة من هذا التفاعل الدبلوماسي الحساس، ويُبرز البراعة السياسية والدبلوماسية التي أظهرها جلالة الملك عبدالله الثاني.
أولًا: موقف الأردن الرسمي
صلابة وسيادة غير قابلة للتفاوض
موقف ثابت ضد التهجير القسري: حافظ جلالة الملك عبدالله الثاني على موقف حازم ضد التهجير القسري للفلسطينيين إلى الأردن. خلال الاجتماع جدد جلالته التأكيد على رفض الأردن استقبال الفلسطينيين من غزة، مشددًا على أن حل القضية الفلسطينية يجب أن يكون سياسيًا، وليس ديموغرافيًا، مع التركيز على دعم الفلسطينيين داخل أراضيهم، وهو ما يؤكد رفض الأردن القاطع لخطة التوطين الذي جاء امتدادًا للنهج الهاشمي التاريخي بالدفاع عن حقوق الفلسطينيين وتعزيز الاستقرار الإقليمي.
الالتزام التاريخي للأردن في الدفاع عن فلسطين والقدس: لم يكن الموقف الأردني سياسيًا فقط، بل هو امتداد لالتزام تاريخي وشرعي بحماية الحقوق الفلسطينية، كما أن الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس تؤكد أن الأردن ليس مجرد وسيط، بل هو طرف أساسي في حماية القضية الفلسطينية، فالأردن لم يكن يومًا طرفًا في صفقات تصفية للقضية الفلسطينية، بل كان دائمًا الداعم الرئيسي لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة.
ثانيًا: ذكاء الدبلوماسية الأردنية – رفض بلا مواجهة
رغم الضغوط الأميركية الهائلة، أظهر جلالة الملك عبدالله الثاني براعة دبلوماسية فائقة في التعامل مع الموقف، عبر تحقيق التوازن بين الحفاظ على السيادة الأردنية، وتجنب أي مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، وذلك من خلال: تقديم بديل إنساني يُفشل المخطط الأميركي، بدلًا من الدخول في صدام مباشر، قدم الأردن مبادرة إنسانية بقبول 2,000 طفل فلسطيني للعلاج في المستشفيات الأردنية، حيث إن هذه الخطوة كانت رسالة دبلوماسية قوية واضحة: «الأردن يدعم الفلسطينيين»، ولكن ليس على حساب سيادته واستقراره، وقد أسهمت في تحويل النقاش من الجانب السياسي في إعادة التوطين إلى الدعم الإنساني، وذلك ما أربك الإدارة الأميركية وسحب البساط من تحت خططها.
المحافظة على التوازن في العلاقات الأردنية – الأميركية: إذ تُعتبر العلاقة بين الأردن والولايات المتحدة شراكة استراتيجية، تشمل مساعدات اقتصادية وعسكرية هامة. ورغم أن الأردن يعتمد على هذا الدعم في تعزيز استقراره وأمنه، إلا أن ذلك لم يمنعه من اتخاذ موقف سيادي مستقل في القضايا المصيرية. إن رفض الأردن للخطة الأميركية لم يؤدِ إلى أزمة دبلوماسية، بل أكد أن الأردن شريك يُعتمد عليه في تحقيق الاستقرار الإقليمي.
ويمكننا القول بكل ثقة: لقد تمكن جلالة الملك من المناورة بذكاء، حيث رفض المقترح بشكل واضح، لكنه في الوقت نفسه حافظ على قنوات الحوار مع واشنطن لضمان استمرار التعاون المشترك مستقبلاً دون تصعيد الأزمة والصدام المباشر مع الولايات المتحدة.
ثالثًا: كيف تعامل الأردن مع الموقف الأميركي والإسرائيلي؟
استجابة واشنطن بعد الرفض الأردني: الإدارة الأميركية لم تتوقع الرفض الأردني القاطع، مما أدى إلى إعادة النظر في بعض جوانب خطتها السياسية للمنطقة. وبالرغم من الضغط السياسي والإعلامي، إلا أن الأردن لم يواجه أي عقوبات أميركية، مما يُظهر أهمية الأردن كحليف استراتيجي في الشرق الأوسط، إذ إن بعض أعضاء الكونغرس الأميركي أبدوا تفهمهم للموقف الأردني، مما ساهم في تقليل الضغط السياسي على المملكة.
الموقف الإسرائيلي – غياب التصعيد المباشر: إسرائيل كانت من بين الداعمين لفكرة إعادة توطين الفلسطينيين خارج الأراضي المحتلة، لكنها لم تصرّح علنًا بموقف معادٍ للأردن بعد الرفض الرسمي، حيث إن القيادة الإسرائيلية لا تريد أي تصعيد مع الأردن.
رابعًا: الدعم الشعبي الأردني
قوة داخلية تدعم القرار الرسمي
موقف موحد بين القيادة والشعب: لم يكن موقف الملك معزولًا عن الشعب، بل جاء انعكاسًا لإرادة وطنية جامعة ظهرت من خلال الحشود الشعبية في جميع المحافظات الرافضة لفكرة الوطن البديل، أما مجلس النواب الأردني فقد أصدر بيانات رسمية تؤكد رفض أي محاولات لفرض توطين الفلسطينيين، وبدورها الأحزاب السياسية الوطنية والعشائر الأردنية أعلنت دعمها الكامل لموقف القيادة، مما عزز من موقف الأردن دوليًا.
أما عن دور الإعلام الأردني في تعزيز الوعي الوطني: فقد قدمت وسائل الإعلام الأردنية دورًا محوريًا في تسليط الضوء على المخاطر السياسية والإنسانية لمخطط التوطين، ومن أبرزها قناة المملكة وجريدة الدستور، حيث تم إطلاق حملات توعوية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أكدت على موقف الأردن الموحد في الدفاع عن فلسطين واستقرارها الداخلي.
خامسًا: السيناريوهات المستقبلية – ما الخطوة التالية للأردن؟
تعزيز الحراك الدبلوماسي الدولي: الأردن سيواصل التنسيق مع الدول العربية والمجتمع الدولي لإعادة القضية الفلسطينية إلى طاولة المفاوضات وفق حل الدولتين، بالإضافة إلى تعزيز التنسيق مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي لضمان استمرار الدعم السياسي والإنساني للفلسطينيين.
استثمار الدور الأردني في أي مفاوضات مستقبلية: الأردن سيبقى لاعبًا رئيسيًا في أي مفاوضات مستقبلية حول القضية الفلسطينية، بحكم دوره السياسي ووصايته على المقدسات في القدس مع استمرار الدعم السياسي والدبلوماسي للفلسطينيين، ورفض أي حلول لا تتماشى مع الحقوق الفلسطينية المشروعة.
الخلاصة: الأردن يقود الشرق الأوسط بثقة وحكمة سياسية، إذ إن لقاء جلالة الملك عبدالله الثاني بالرئيس الأميركي ترامب كان اختبارًا حقيقيًا لقدرة الأردن على حماية استقلاله السياسي وموقفه الثابت تجاه القضية الفلسطينية، مع رفض الأردن القاطع لخطة التوطين، وذلك ما أكد أن الأردن ليس دولة تابعة، بل هو قوة سياسية تحظى باحترام المجتمع الدولي، وذلك ما يجسد حكمة جلالة الملك والدبلوماسية الأردنية في تجنب الصدام المباشر مع واشنطن الذي بدوره عزز من مكانة الأردن كشريك إقليمي موثوق به، أما عن الدعم الشعبي فقد عزز موقف القيادة الأردنية، مما جعل القرار الأردني أقوى وأكثر تماسكًا على المستويين الداخلي والدولي.
الأردن لم يُدافع عن نفسه فقط، بل دافع عن فلسطين، وعن الشرق الأوسط بأكمله، وأثبت أنه قوة إقليمية قادرة على رسم مستقبل المنطقة بحكمة ودبلوماسية متزنة.
* رئيس فرسان التغيير للتنمية السياسية وتطوير المجتمع المدني

