النقرش يكتب: كيف نواجه الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية؟
د. ابراهيم النقرش
في كل مرة تشتد فيها الأزمات في المنطقة العربية، تتصاعد أصوات الغضب الشعبي عبر التظاهرات والخطابات العاطفية التي تندد بالظلم الواقع، خصوصًا ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والسياسات الأمريكية والإسرائيلية تجاه الشعوب العربية؛ وهذا حق شرعي ومتنفس شعبي للفضفضة عما في الداخل خاصة إذا كانت ممنوعة في بعض الأحيان. ومع ذلك، يبقى السؤال العملي والأساسي: هل تكفي هذه الخطابات والتظاهرات لإحداث تغيير حقيقي في المعادلة السياسية وإثبات الوجود؟ الواقع وبالتجربة يقول إن السياسة تُبنى على المصالح لا على المشاعر والعواطف والخطابات وإن طقت الحناجر، وإن الفاعلية تكمن في استراتيجيات الضغط السياسي والاقتصادي وتسويقها إعلاميًا، وليس في الصراخ والشعارات التي لا تتعدى حدود الوطن.
ولفهم طبيعة القرارات السياسية الأمريكية، من الضروري إدراك أن العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل ليست مجرد تحالف عابر أو نخوة ونزوة رئيس أو إدارة، بل هي شراكة استراتيجية وجودية (للطرفين) عميقة تتجاوز الإدارات المختلفة في واشنطن. فالرؤساء الأمريكيون، بمن فيهم دونالد ترامب، يتخذون قرارات تصب في مصلحة إسرائيل ضمن رؤية استراتيجية أمريكية مخطط لها واضحة لخدمة الأمن القومي لكليهما (يتبادلان الأدوار بينهما كهرواة، كل بيد الآخر يهوي بها على رؤوس من يعارضهم، وكليهما عصا بيد الآخر يهشّون بها على العرب). وهذا ما ظهر جليًا في مشاريع تهجير الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية، التي تستهدف تغيير التوازن الديموغرافي وفرض وقائع جديدة تؤثر على دول الجوار، لا سيما الأردن.
بالنسبة لنا في الأردن، فإن هذه المخططات تشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الوجودي والهوية الأردنية، إذ إن أي محاولة لفرض حلول ديموغرافية على حساب الأردن قد تؤدي إلى تداعيات سياسية واجتماعية خطيرة يكون لها تأثيرات عميقة على الوطن والمواطن والنظام السياسي (الذي نعتبره كأردنيين وبإجماع، الوجه الحقيقي لوجود الدولة الوطنية الأردنية وهويتها القومية). والنظام السياسي الأردني، رغم الضغوط، يدرك تمامًا خطورة هذه المشاريع ويرفضها بشدة، مدعومًا بتوافق شعبي قوي رافض لأي تنازلات من شأنها أن تمس بالهوية الوطنية الأردنية.
واشنطن، في إطار ممارسة نفوذها وسطوتها في المنطقة العربية، تعتمد على ورقة المساعدات الاقتصادية (الهراوة المسلطة) كوسيلة للضغط على الأردن ودول أخرى في المنطقة. فالأردن، الذي يواجه تحديات اقتصادية متزايدة، من الطبيعي أن يجد نفسه أمام معادلة صعبة بين حاجته إلى الدعم المالي الملح واستقلال قراره السياسي والسيادي. لكن التجربة أثبتت أن الخيارات البديلة ممكنة، كما حدث مؤخرًا حين نجح قائد السياسة والسيادة الأردنية الملك عبد الله الثاني في تأمين اتفاقية مساعدات بقيمة 3.5 مليار يورو مع الاتحاد الأوروبي، ما منحنا في الأردن هامشًا أوسع وقاعدة أصلب للمناورة في الحوار والمفاوضة، وأكد أن الخيارات لا تقتصر على الدعم الأمريكي وحده، بل هناك سياسة نافذة وقادرة على خلق البدائل وتحويل المحن إلى منح.
ورغم الزخم الكبير الذي تولده التظاهرات والخطابات الحماسية على امتداد (بلاد العرب أوطاني)، إلا أن تأثيرها على السياسة الأمريكية يكاد يكون معدومًا. لا أحد يسمعه خارج الوطن. لأسباب عدة واقعية ومهنية منها على سبيل المثال لا الحصر أولًا: المواطن الأمريكي العادي ليس معنيًا بما يجري في الشرق الأوسط وغضبه ليس من اهتماماته، إذ يُتابع الإعلام المحلي الذي يعكس وجهة نظر منحازة في كثير من الأحيان. ثانيًا، صناعة القرار في واشنطن تعتمد على المصالح والضغوط الداخلية وليس على الغضب الخارجي وبواكيه وعواطفه. ثالثًا، اللوبيات القوية مثل لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC) تمارس نفوذًا هائلًا في توجيه السياسة الأمريكية، بينما يفتقر العرب في الداخل الأمريكي إلى أدوات ضغط مماثلة (اللهم عدا صاج الفلافل وسيخ الشاورما وابداعهم بسلاسل دكاكين بيع بطحات العرق). وهذا لا ينفي وجود صحوة متأخرة ومهتمين بهذا الشأن وهم قلة. رابعًا، الإعلام الغربي المنحاز الموجه يصوغ الرواية بطريقة صهيونية خبيثة تخدم إسرائيل، ما يجعل من الصعب تغيير الرأي العام الأمريكي دون وسائل إعلامية منافسة قادرة على التأثير.
إذا بدلًا من الخطابات الرنانة والعاطفية، فإن هناك خيارات أكثر فاعلية يمكن تبنيها لمواجهة النفوذ الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة. من أبرز هذه الخيارات، بناء لوبي عربي قوي ومهني ببرامجه ومهنيته وباللغة الإنجليزية موجه إلى النخب والناخب الأمريكي في واشنطن والشعب الأمريكي (من الداخل ومن الإعلام العربي) يعمل على توظيف الجاليات العربية والإسلامية للضغط داخل مؤسسات صنع القرار، تمامًا كما يفعل اللوبي الصهيوني. كذلك، فإن دعم وسائل الإعلام المؤثرة داخل الولايات المتحدة لنقل الرواية العربية بموضوعية ومهنية، يعد من الأدوات الأساسية لكسر الهيمنة الإعلامية المزيفة التي تصب في صالح إسرائيل.
ولفرض واقع قوي جديد (وليفل الحديد الحديد)، فإن تعزيز التحالفات مع القوى العالمية المعارضة للسياسات الأمريكية، مثل الصين وروسيا ودول أمريكا اللاتينية، يمكن أن يوفر بدائل استراتيجية تقلل من التبعية للولايات المتحدة وربيبتها وهيمنتهما وارتهانهما للأمة العربية وقرارها وسيادتها. كما أن استخدام أوراق الضغط الاقتصادية، لا سيما في مجال الطاقة والتجارة، قد يمنح الدول العربية مساحة أكبر للمناورة بعيدًا عن الضغوط الأمريكية والتشبث بذيلها.
أما على المستوى الداخلي العربي، فإن تقوية الاقتصاد العربي وتقليل الاعتماد على المساعدات الغربية هو أمر حتمي إذا أرادت الدول العربية التحرر من الضغوط الخارجية وتبعاتها المقيتة المميتة على الوطن والمواطن والأنظمة. فكلما زادت الاستقلالية الاقتصادية، قلّت قدرة القوى الخارجية على فرض أجنداتها. بالمثل، فإن تعزيز القدرات العسكرية والاستراتيجية للدول العربية من شأنه أن يفرض معادلة جديدة في (الردع والدرع العسكري) والاستراتيجي في المنطقة يمهد ويؤسس لانطلاقات سياسية جديدة مدعومة بالدرع والردع الاستراتيجي.
وبالتزامن مع هذا حتمًا، يجب إعادة النظر في مسألة القواعد العسكرية الأمريكية في الدول العربية، إذ إن وجودها لا يخدم بالضرورة مصالح الشعوب العربية ولن يخدمها (فلا يعقل أن تلقي أمريكا بجنينها إسرائيل في النار)، بل يخدم الاستراتيجيات الأمريكية والإسرائيلية. كما أن الاستمرار في دعم الاقتصاد الإسرائيلي عبر التطبيع غير المدروس يضعف أي موقف عربي موحد، مما يستوجب مراجعة شاملة لهذه العلاقات وفقًا لمبدأ المصالح المتبادلة وليس المجانية. فلا يعقل أن يبقى العداء العربي لإسرائيل نظريًا والتطبيع والعلاقات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والتنسيقات الأمنية قائمة مع العدو (وهذا دعم مباشر وغير مباشر)... حتى أُكلنا حتى العظم.
السياسة تُبنى بالقوة لا بالعواطف
في نهاية المطاف، لا يمكن إحداث تغيير حقيقي في ميزان القوى بالاعتماد على العواطف والمظاهرات والصرخات وحدها. فالسياسة تبنى بالقوة لا بالعواطف والمشاعر والخطابات. العالم يحترم الأقوياء، والسياسة لا تتغير بالصراخ، بل تبنى على استراتيجيات مدروسة تجمع بين الاقتصاد والإعلام المهني والدرع العسكري، والتحالفات الدولية. إذا أراد العرب التأثير في السياسات الأمريكية والإسرائيلية، فعليهم التحرك وفق رؤية استراتيجية عملية تركز على بناء قوة اقتصادية، إعلامية، وعسكرية قادرة على فرض واقع جديد، بدلًا من الاكتفاء بردود الفعل العاطفية غير المجدية والمخزية أحيانًا (كالقول... احمونا مشان الله) أو وفق نظرية أحدهم (الحرب السلمية).
أفيقوا أيها العرب، فلا يحترم العالم إلا القوي... ولا بقاء إلا للأقوى.

