جرار يكتب: الحجارة أنواع يعرف قدرها البُناة الرعاة
بشار جرار
يشدد ويغالي كثيرون من مؤيدي دونالد ترامب ومعارضيه قبل توليه الرئاستين الخامسة والسابعة والأربعين لأمريكا، يغالون في انتقاد أو التهويل من ذهنية صانع الصفقات. يتناسى الفريقان أن الرئاسة وما هو أهم منها القيادة من شروط نجاحها أو أسباب فشلها هي إدارة الأعمال بما فيها من موجودات وموارد بشرية ومادية. حتى التشبيه الذي يطرح على نحو سلبي كأن يقال أن فلانا يدير شركة أو مؤسسة وكأنها مزرعة أبيه، حتى ذلك على لغته الصادمة فيه شيء من الفلاح إن أفلح ذلك الإداري في إدارة ما أؤتمن عليه بأمانة واعتبار الملكيات العمومية وكأنها خاصة والناس العاديين بأنهم كخاصته من أفراد أسرته وأهله. المعيار هو أداء الأمانة، تعظيم النجاحات والحد من الإخفاقات. وما يلي هو الأهم، التعامل مع التحديات والأزمات وحتى الكوارث على أنها فرص قابلة للاقتناص، الاغتنام، بمعنى الاستثمار في الحاضر لأجل المستقبل، لا اجترار الماضي بأخطائه والوقوع في براثن اللحظة الآسرة الحاجبة للرؤى المستقبلية البنّاءة.
وتكاد حضارات البشرية كلها تجمع على أن الزراعة (الفلاحة) والبناء (العمران) من مقومات البقاء والنماء والخلود، خلود بمعنى السمعة الطيبة والذكرى العطرة لقادة أرسو قواعد البناء وعرف الناس عظم ما تحقق على أيديهم وبفضل قيادتهم بعد سنين وربما بعد عقود وقرون.
من الرموز الأكثر دلالة والتي ما زالت عالمية لا تحشرها الصراعات الإثنية في تفاصيل تبقى صغيرة عابرة، هي الحجارة التي يرى فيها البعض عقبة كأداء وعثرة تعيق البناء وأداة رجم وأذى وبطش، وبين من يراها نقاط ارتكاز وانطلاق في آن واحد. ذلك هو الفرق بين «ستَمبلِنغ بلكس» و»ستِبِنغ ستونز». الأولى تعيق الأنا والآخر، ويعثر بها الجميع، والثانية فيها وجهان، خيرا أم شرا بحسب نوايا البناة.
ميزة البناة الرعاة أنهم رعاة قبل وبعد كل شيء. كملكيّ حتى النخاع وفي المطلق، مازلت من المؤمنين أن الملكية خير نظام حكم عرفته البشرية، وأعظمه قيمة هو ذلك الذي يحقق فيه الملوك عبر التاريخ بناء تراكميا يزيد من روعة ومنعة ما يبنوه بالإرداة الحرة والنوايا الصالحة من أعمال، وُجدت لتبقى ولتنمو وليعمّ فيها الخير على الجميع ويفيض. المَلَكيات تحرص على حسن الجوار وليس الديموقراطيات أو أي أيدولوجية أخرى بالضرورة كما يزعم البعض. أمريكا كما بناها الآباء المؤسسون في تراثها الروحي الكتابيّ، تقوم على أن الراعي والباني الحقيقي هو الله سبحانه، وأن من يقومون على خدمة الناس من القادة -ملوكا ورؤساء- هم أمناء حكماء قبل كل شيء. لذلك اعتبر الرئيس الأول جورج واشنطن أن الهدف الأسمى هو الحفاظ على الجمهورية وليس الديموقراطية، وتلك كانت التصريحات الصادرة عن كثير من الإدارات الأمريكية وزعامات الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديموقراطي حيث تعلو دائما اعتبارات الأمن القومى ومصالح الأمة الأمريكية.
قبل عقود من نشوء حركة «ماغا» وشعار وأجندة «أمريكا أولا». حفظ النظام (الأمن والقانون والنظام) وحماية الوطن هو الثابت، أما السياسات خارجية كانت أم داخلية، فمسائل دائبة التغير، ودائما في عين النظر والتدقيق والمراجعة وإعادة التقييم، كلما استدعى الأمر ذلك.
القمة الأردنية الأمريكية غدا الثلاثاء في البيت الأبيض، والزيارة الملكية التي تتضمن الكونغرس بمجلسيه الشيوخ والنواب وتشمل مدينة بوسطن عاصمة ولاية مساتشوسِتس الأمريكية، لن تبحث ملف غزة ولا القضية الفلسطينية فقط، بل العلاقات بين حليفين صمدت شراكتهما ثلاثة أرباع القرن مرت بمنعطفات وتحديات وأزمات عاصفة.
يعلم العارفون بمزايا وقيمة هذا التحالف مدى عمقه ومدى تعقيدات تشبيكاته لا اشتباكاته. يعلمون أن ملفات كبرى تمت إدارتها بنجاح كمحاربة الإرهاب والمخدرات وعصابات ونظم الأشرار بكل مسمياتها، ملفات ذات أبعاد إقليمية وعالمية ما هي إلا بعض ما تتطابق فيه وجهات النظر بين عمّان وواشنطن على تعاقب الإدارات. يعلمون أن من يرون في خبطات بعض الأبواق -المعروفة بعدائها المسبق- أزمة خلافات ثنائية، ما هي إلا العكس تماما، هي فرص مشتركة ستعمل على تعزيز متانة الثقة والشراكة بين البلدين، ومؤسسات الدولة في الأردن وأمريكا. أخبار «دووج» مثلا أكثر ما تسعد المعنيين بمكافحة الفساد، والعاملين على حماية أهم القطاعات -الدفاع والتنمية والتربية والتعليم والثقافة والصحافة- من عبث اليسار-. إخضاع البنتاغون مثلا للتدقيق المالي يشد من عضد الشرفاء ولا يقلق الأمناء، ويعطي شحنة دعم قوية لأولئك الذين تعرضوا للظلم أو الإقصاء بسبب مقارعتهم لأكثر الناس إساءة لثقة المؤسسات السيادية والقطاعات الحيوية الحساسة.
نذكر كأردنيين باعتزاز وعرفان وامتنان، أيقونات في العمل المدني والعسكري، كالشريف الأمير زيد بن شاكر، والشريف عبدالحميد شرف، والشهيد وصفي التل، ودولة مضر بدران، طيب الله ثراهم أجمعين وكتب مقامهم في عليين، وأعلام أردنية كبيرة وقامات باسقة لا حصر لها، كان سر قوتها في التفاوض مع العدو والصديق على حد سواء، هو نظافة كفها ولسانها، وطهر قلبها ونفاذ بصيرتها وعزم همتها.
مهيوب سيدنا وبيرقه عالٍ، ربنا يقدّر الجميع من حوله -داخل الوطن وخارجه- على تقديم كل أشكال الدعم والإسناد بما يرضيه وعلى خاطره، «عين أبونا» في الذكرى السادسة والعشرين ليوم الوفاء والبيعة..

