ما تخشاه إيران يقترب
قال الباحث المتخصص في الشأن السياسي الدكتور نبيل العتوم إن سوريا تمثل لإيران أهمية استراتيجية بالغة، حتى أن بعض المسؤولين الإيرانيين اعتبروها أكثر أهمية من خوزستان، المنطقة الغنية بالنفط والطاقة والتي تعد ركيزة أساسية للاقتصاد الإيراني.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن هذا التصور يعكس المكانة المحورية التي تشغلها سوريا في الاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، إلا أن المشهد العام يشير إلى تناقضات حادة وحالة من الارتباك غير المسبوق في التصريحات الصادرة عن طهران.
تناقضات الروايات الإيرانية
وبيّن العتوم أن هذه التناقضات تتجلى في تعدد روايات المسؤولين الإيرانيين حول أسباب ما آلت إليه الأوضاع في سوريا، حيث يلقى باللوم تارة على خيانة الجيش السوري وأجهزته الأمنية، وتارة أخرى على رفض بشار الأسد مقترحات إيرانية حيوية، مثل إنشاء حرس ثوري سوري على غرار الحرس الثوري الإيراني ليكون أداة لحماية النظام، وهذه الخطوة التي لم تلق قبولًا من الأسد أبرزت تباين الرؤى بين طهران ودمشق بشأن سبل تعزيز استقرار النظام السوري.
في سياق موازٍ، تتصاعد الخلافات بين إيران وروسيا على خلفية أدوار الأخيرة في سوريا، حيث تتهم إيران روسيا بتقويض تعاونها الاستراتيجي معها، وأبرز هذه الاتهامات تشمل تراجع روسيا عن التزاماتها بتزويد إيران بطائرات مقاتلة، وتأخرها في تسليم منظومات دفاع جوي عقب هجوم 26 أكتوبر الذي شهد تعهدات روسية لم تتحقق. كما أثيرت مزاعم بأن روسيا قدّمت معلومات استخباراتية لإسرائيل، ما أسهم في تنفيذ عمليات اغتيال استهدفت كبار ضباط الحرس الثوري الإيراني، مضيفًا أن هذه الاتهامات لم تصدر عن مسؤولين ثانويين، بل عن شخصيات بارزة مثل علي لاريجاني، ما يضفي مزيدًا من الجدية على هذه الخلافات ويعكس عمق التصدع في العلاقة بين البلدين.
النظام الإيراني والغرف المغلقة
وأشار العتوم إلى أن ما يزيد الأمر تعقيدًا هو خشية النظام الإيراني من التداعيات الداخلية لهذه التطورات المتسارعة، فالمشهد الداخلي في إيران يعاني من ضغوط متزايدة، حيث باتت القيادة الإيرانية تواجه تحديات تتجاوز حدود الجغرافيا السورية، لتصل إلى أروقة صنع القرار في طهران، ذلك أن المحاولات الإيرانية للتهرب من المسؤولية وتوجيه اللوم نحو أطراف خارجية، سواء كانت روسيا أو غيرها، تعكس أزمة ثقة عميقة في الخيارات الاستراتيجية للنظام، فضلًا عن قلق متزايد من التأثير المحتمل لهذه التطورات على استقرار الداخل الإيراني.
ولفت الانتباه إلى أن الصراع في سوريا، بما يحمله من تعقيدات إقليمية ودولية، يكشف عن هشاشة التحالفات التي لطالما اعتبرتها إيران من ركائز سياستها الخارجية، مضيفًا أن تعثر مشروع إيران في سوريا يتجاوز مفهوم الإخفاق في إدارة التحالفات، إلى انعكاس مأزق أعمق تواجهه طهران في تحقيق توازن بين طموحاتها الإقليمية وواقع التحديات الداخلية والخارجية التي تضغط على مفاصلها الاستراتيجية.
ضربة محتملة قريبة
واستطرد العتوم قائلًا إن إيران تشهد اليوم واحدة من أكثر المراحل حساسية وتعقيدًا في تاريخها الحديث، إذ تواجه تهديدات متصاعدة بضربة عسكرية محتملة من الولايات المتحدة أو إسرائيل، والعملية التي نُفذت في 26 أكتوبر، والتي أسفرت عن تدمير جزئي للدفاعات الجوية الإيرانية، أكثر من مجرد ضربة تقنية، فهي رسالة استراتيجية بأن الطريق أصبح ممهدًا أمام استهداف المنشآت النووية الإيرانية، مما يعمق الشعور بالخطر لدى القيادة الإيرانية.
مع تسارع وتيرة التطورات، يبدو أن طهران باتت مدفوعة نحو عسكرة برنامجها النووي بشكل أكثر وضوحًا، كخيار استراتيجي وحيد لتأمين ما تعتبره "خط الدفاع الأخير"، ومع ذلك، فإن هذا التسارع يحمل مخاطر كبرى، حيث تزايدت التسريبات حول تحضيرات أمريكية لاستهداف المنشآت النووية، خاصة في ظل فقدان إيران تدريجيًا لأوراق الضغط التي طالما اعتمدت عليها في موازين القوى الإقليمية والدولية.
توظيف الأزمات
لطالما كان لإيران استراتيجية تُعرف بـ"توظيف الأزمات"، حيث سخرت أوراقًا إقليمية مثل حزب الله اللبناني، الحوثيين في اليمن، الملف السوري، وحتى غزة، لتحقيق مكاسب سياسية أو تفاوضية، إلا أن المتغيرات الإقليمية والدولية جعلت هذه الأوراق تفقد بريقها وتأثيرها. إيران اليوم تجد نفسها أمام واقع جديد، حيث تقلص نفوذها بشكل ملحوظ في سوريا، بينما تواجه تحديات في السيطرة على وكلائها الإقليميين، وفقًا لما صرّح به العتوم لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
في ظل هذه الظروف، تسعى طهران إلى إعادة تموضع أدواتها الإقليمية، حيث حثت الحوثيين في اليمن على الاستعداد لما وصفته بـ"المنازلة الكبرى" مع الولايات المتحدة وإسرائيل، في محاولة لإظهار أن محور المقاومة لا يزال قادرًا على الفعل والرد، إلا أن هذه المحاولات تبدو، في جوهرها، تعبيرًا عن يأس النظام الإيراني أكثر من كونها استراتيجية ناجحة.
تضخيم الأخطار
وقال العتوم إن الاضطراب داخل النظام الإيراني أصبح واضحًا من خلال التصريحات المتناقضة بين كبار المسؤولين. المرشد الأعلى والرئيس ووزير الخارجية وقائد الحرس الثوري وغيرهم يبدون وكأنهم يتحركون في اتجاهات مختلفة، ما يعكس انقسامات عميقة وتخبطًا غير مسبوق. في مواجهة هذا الواقع، تبنى النظام الإيراني استراتيجية "تضخيم الأخطار"، حيث يركز على تصوير تهديدات خارجية محدقة لتوحيد الداخل وصرف الأنظار عن إخفاقاته الداخلية المتراكمة.
تصريحات إيران الأخيرة بشأن استهداف منشآت حيوية مثل قاعدة "العديد" في قطر، أو تهديدها بإغلاق مضيق هرمز، تمثل محاولات لتوجيه رسالة مفادها أن أي هجوم ضد إيران سيقابل بردود فعل مدمرة على المستويين الإقليمي والعالمي. ومع ذلك، فإن هذه التصريحات تكشف عن ضعف أكثر مما تظهر قوة، إذ تعكس أزمة حقيقية في تحديد الأولويات ووضع استراتيجيات واقعية لمواجهة التحديات.
ما يزيد من تعقيد المشهد هو مصير الميليشيات الإيرانية المنتشرة في المنطقة، حيث تثار تساؤلات حول ما إذا كانت ستبقى أداة في يد طهران، أم أنها ستُجبر على تقليص دورها نتيجة الضغوط الدولية والإقليمية. الزيارة الأخيرة لمسؤولين إيرانيين إلى العراق تعكس حالة من إعادة التقييم لدور هذه الميليشيات، إلا أن مستقبلها يظل غامضًا، وسط مؤشرات على تراجع فعاليتها وعدم قدرتها على ملء الفراغ الذي تركته إيران في ساحات أخرى.
واختتم العتوم حديثه بالقول إن إيران اليوم تعيش لحظة فارقة، حيث تضيق الخيارات أمامها، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. التهديدات بضربة عسكرية محتملة، فقدان أدوات التأثير الإقليمي، وتصاعد الأزمات الداخلية كلها عوامل تجعل النظام الإيراني في مواجهة استحقاق تاريخي قد يحدد ملامح مستقبله لعقود قادمة.