أهم القواعد لبناء صفحة جديدة في سوريا
قال الكاتب والباحث في الصحافة العبرية الدكتور حيدر البستنجي، إن الشعب السوري أكثر من خمسة عقود مكبّلًا تحت حكم نظام عائلي استبدادي أشبه بمنظومة مافيوية، سيطر على جميع مفاصل الدولة وأدارها بمنطق المصلحة الذاتية.
وأوضح البستنجي في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية، أن هذه الحقبة المظلمة زجّت بالسوريين في أتون الخوف والكراهية والعنف، وكرّست حالة من الرعب المتبادل بين أبناء المجتمع، ومع انهيار هذا النظام وسقوط رموزه، يبرز سؤال ملحّ حول قدرة السوريين على استعادة عافيتهم كأفراد ومجتمع، وبناء مستقبل يتجاوز كل آثار القهر والاستبداد.
وبيّن البستنجي أن النظام البائد لم يكتفِ بإقصاء قيم المواطنة وملاحقة الحقوقيين والديمقراطيين، بل تمادى في سحق الإنسان واعتباره عبئًا زائدًا عن الحاجة ما لم يكن منخرطًا في منظومة التمجيد والتطبيل للسلطة، إذ تفنّن هذا النظام في الاستحواذ على مقدرات الوطن وتسخيرها لخدمة مصالحه الخاصة، حتى أوصل البلاد إلى حالة غير مسبوقة من التدهور والانهيار، ولضمان بقائه، لجأ إلى استجلاب التدخلات الخارجية التي عمّقت مأساة الشعب، وأفقدت الدولة استقلالها وسيادتها.
العدالة الانتقالية لتجاوز القمع والصراعات
وفي أعقاب سقوط النظام، تواجه سوريا مجموعة من التحديات المصيرية التي ستحدد ملامح المرحلة القادمة، مضيفًا أن العدالة الانتقالية تمثل حجر الزاوية في تجاوز آثار العقود الماضية من القمع والنهب، لكنن هذه العدالة لا بد أن تتسم بالإنصاف بعيدًا عن الانتقام أو المحاباة، وأن تهدف إلى إعادة بناء النسيج الاجتماعي الذي مزّقه الاستبداد، ومع ذلك، فإن تحقيق هذه العدالة لا يمكن أن يتم بمعزل عن إعادة إعمار شاملة تُحيي الاقتصاد وتعيد المهجرين إلى وطنهم، وهو ما يتطلب موارد ضخمة قد يصعب الحصول عليها دون مواجهة شروط وقيود دولية قد تمس استقلال القرار الوطني، وفقًا لما صرّح به لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
وذكر البستنجي أن الخطر الإسرائيلي يظل أحد أكبر التحديات الوجودية أمام سوريا، خصوصًا مع استمرار الاحتلال للجولان السوري وتوسيع نفوذه في ظل حكومة إسرائيلية متطرفة، وهذا التحدي يتعاظم في ظل الفجوة القائمة بين الإمكانيات السورية الراهنة وحجم التهديد الذي يمثله المشروع الصهيوني.
على صعيد آخر، تبرز المسألة الكردية كملف شديد الحساسية، يتطلب حكمة استثنائية لضمان وحدة الأراضي السورية والحفاظ على التنوع الوطني، والتعامل مع هذا الملف يجب أن يستند إلى رؤية شاملة تُعلي من قيم المساواة والعدالة، وتعمل على تعزيز الانتماء الوطني لجميع المكونات من دون تهميش أو إقصاء.
أدوات كشف الانتهاكات وبناء الوعي التاريخي
وأشار إلى أن المشاركة الشعبية الواسعة تمثل العامل الحاسم في إنجاح عملية التحول الوطني، حيث لا يمكن أن تترك عملية بناء سوريا الجديدة بيد القوى المسلحة أو الجماعات الفصائلية أو حتى القوى الإقليمية والدولية المتربصة، لذلك، البدء بفتح الفضاء السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي أمام جميع السوريين هو المدخل الحقيقي لإطلاق مشروع وطني شامل يقوم على إعادة هيكلة الدولة على أسس مدنية وديمقراطية ودستورية.
وأكّد البستنجي أهمية أن يكون الدستور الجديد انعكاسًا لتطلعات جميع فئات الشعب، مع ضمان الحريات والحقوق بشكل متساوٍ، غير أن هذا المشروع لا بد أن يسبقه عمل دؤوب لتحقيق العدالة الانتقالية كخطوة أساسية تُعيد الثقة بين أبناء الوطن.
جبر الضرر واستعادة الكرامة الإنسانية
واستطرد قائلًا إن إعادة بناء سوريا لا تعني مجرد ترميم ما دمرته الحرب، بل تتطلب رؤية جديدة تُرسّخ قيم المواطنة، وتُطلق طاقات المجتمع نحو نهضة شاملة تشمل الإنسان قبل الحجر، فسوريا القادمة تحتاج إلى مشروع وطني متكامل يُوحّد الإرادة الشعبية ويعيد للبلاد مكانتها، بعيدًا عن الاستبداد والارتهان للخارج.
وعن العدالة الانتقالية، تابع أنها تمثل النهج الوحيد القادر على تجاوز آثار الماضي الأليم، ومعالجة إرث فترات الصراع والقمع الممتدة، فهي الإطار الشامل الذي يتيح التصدي لانتهاكات حقوق الإنسان المنهجية وواسعة النطاق التي تعجز نظم العدالة التقليدية عن معالجتها بفعالية.
استئصال جذور القمع وضمان حماية حقوق الإنسان
ويتطلب تطبيق العدالة الانتقالية ملاحقات قضائية دقيقة تشمل كل من ساهم في القمع واضطهاد الشعب أو استولى على مقدرات الوطن، ذلك يتحقق عبر لجان الحقيقة التي تعمل على كشف الحقائق وتوثيق الانتهاكات، وبرامج التعويضات التي تعيد الحقوق إلى أصحابها، فضلًا عن جهود الكشف عن المقابر الجماعية واستعادة كرامة الضحايا المفقودين.
ومن الأهمية بمكان أن تتضمن العدالة الانتقالية خطوات جريئة مثل تقديم اعتذارات صادقة من الفئات التي استفادت بشكل غير مشروع من النظام السابق، وإرساء مبدأ العفو المشروط عن الأفراد الذين أجبرتهم الظروف على الصمت خوفًا أو ضعفًا.
وأوضح البستنجي أن تكريم الضحايا يأتي عبر توثيق ونشر قصصهم التي تسلط الضوء على معاناتهم، وإقامة نصب تذكارية تخلّد تضحياتهم، وإعادة صياغة المناهج الدراسية لتضمين الحقائق التاريخية، كما تلعب الفنون والآداب دورًا أساسيًا في تعرية الماضي وفضح الجرائم، بما يساهم في تطهير الذاكرة الجماعية للمجتمع من آثار انتهاكات حقوق الإنسان.
وأشار إلى أن العدالة الانتقالية لا تكتمل دون إطلاق مبادرات إصلاح مؤسسية تعيد بناء هياكل الدولة على أسس عادلة وشفافة، بما يضمن احترام حقوق الإنسان في المستقبل، وهذا النهج الشامل لا يهدف فقط إلى معالجة الماضي، بل إلى كتابة صفحة جديدة تُرسخ قيم العدالة والمساواة، وتفتح آفاقًا لبناء مجتمع يتسم بالتصالح والنهضة المشتركة.