تجربتي التعليمية مع مؤسسات كوريا الجنوبية
د. عبدالله سرور الزعبي
استوقفني ما حدث في كوريا الجنوبية ليلة الامس وحيث تفاجأت كغيري مما حدث فيها من اعلان للاحكام العرفية وتعطيل الديمقراطية فيها لعدة ساعات والفضل يعود الى البرلمان الكوري الذي اثبت للعالم بأن كوريا الجنوبية دولة المعجزات الحقيقية. فهي حققت المعجزة الأولى والتي نقلت البلاد خلال نصف قرن من الفقر الى قائمة مجموعة العشرين لأكبر الاقتصادات في العالم، مع انها تعتبر من الدول المصنفة بالدول الفقيرة في الموارد الطبيعية وتعاني من الاكتظاظ السكاني في مساحة لا تتجاوز 100 كيلو متر مربع وسكانها يتجاوز 51 مليون نسمة. وهي الدولة الوحيدة التي ارتفع فيها متوسط دخل الفرد من 200 دولار سنويًا في عام 1967 الى ما يزيد على 35 ألف دولار في عام 2023.
على الرغم من الازمة الاقتصادية التي مرت بها في عام 1997، وفقدت عملتها نسبة كبيرة من قيمة عملتها وأدت الى خسارة 2 مليون وظيفة، الامر الذي اضطرها لقبول المعونة والقروض بقيمة وصلت الى 57 مليار دولار لإنقاذ اقتصادها الذي اعتبر بأنه على وشك الانهيار، إلا أن الحكومة قامت بوضع خطة صارمة للانقاذ الاقتصادي قدم فيها المواطنون الكوريون مساهمات طوعية، بحيث ظهرت نتائج التعافي الاقتصادي خلال عام واحد فقط.
إن ما حدث في كوريا جعلني أستذكر تجربتي الشخصية معهم خلال سنوات عملي كرئيس لجامعة البلقاء وأنا شخصيا من المعجبين في آلية العمل المؤسسي لديهم وفي تجربتهم الواقعية (وفي نفس الوقت لا أخفي إعجابي بهم كشعب منتم وساع للابداع) وما حققته من انجازات في التعليم والصناعة والنمو الاقتصادي، والذي يمكن اعتبارها المعجزة الكوريه الفريدة في العالم التي تحققت خلال العقود الماضية، والفضل في ذلك يعود الى انطلاقهم من خطة اصلاح حقيقه لقطاع التعليم (والتي كنت قد اطلعت عليها ودرست وبعض من زملائي التجربة الكورية بدقة متناهية) والتي كانت قد بدأت في ستينيات القرن الماضي، وما لبثت ان وفرت للدولة الكورية الكفاءات القادرة على التخطيط ومتابعة التنفيذ على ارض الواقع مطبقة الركائز الاساسية للنمو في مؤسسات الدولة كالرشاقة، والمقارنة المعيارية، والتقارب، والتفاني في العمل.
خلال فترة عملي رئيساً لجامعة البلقاء كنا قد نسجنا علاقات قوية مع الجامعات الكورية ومع المنظمات الداعمة فيها كمؤسسة كويكا KOICA. وهنا اذكر عندما زار سفير جمهورية كوريا الجنوبية السيد لي بوم يون جامعة البلقاء التطبيقية بتاريخ 8/5/2017 وتم بحث أسس نقل النماذج الكورية في التعليم التقني إلى الجامعة، وتدريب مدربي التعليم التقني في المجالات المختلفة، ونقل التكنولوجيا المستخدمة في المشاغل والمختبرات في التعليم التقني، وبناء وإعادة وتأهيل قدرات مدربي التعليم التقني والمهني، ودعم التطوير الخطط الدراسية التقنية القائمة على المهارات للبرامج المطروحة في جامعة البلقاء التطبيقية، وحيث طلب عندها اطلاعه على خطة الجامعة الاستراتيجية لعام 2016-2020، وبعد ان اطلع عليها قدم لنا نصيحة بان نبدأ من انشاء مركز للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات لكي لا نتأخر عن التطورات المتسارعة في العالم، ولكي يكون جزءا لا يتجزأ من عملية الاصلاح الاكاديمي والاداري التي وضعت الجامعة خطط تنفيذها في ذلك الوقت.
استغللنا وفريقي المشارك في الاجتماع الفرصة وطلبنا منه المساعدة في ذلك، الامر الذي تم على وجه السرعة عن طريق تقديم الدعم الكامل من قبل الحكومة الكورية لإنشاء المركز. ولم يمض العام إلا وقد تم افتتاح المركز وكأن ذلك تحديداً بتاريخ 17/12/2017 وبعد ان تم تزويده بمختبرات مجهزة بأحدث وسائل الاتصال الالكترونية وأجهزة حديثة لتدريب المدربين والتواصل مع العالم الخارجي للاطلاع ومتابعة التطورات التكنولوجية في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من قبل أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعة والطلبة.
ومن هذا المنطلق أصبح المركز يحمل اسم المركز الاردني الكوري للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ركيزة أساسية في نهضة والتطور الرقمي في الجامعة.
وفي لقاء آخر مع السفير الكوري كنا قد بحثنا معه فكرة انشاء كلية للذكاء الاصطناعي، والذي شجع على ذلك بقوة ووعد بتقديم المساعدة لتعزيز الفكرة من خلال الدعم المباشر ومن خلال وفتح آفاق التعاون مع الجامعات المختصة في مجال الذكاء الاصطناعي في كوريا، الامر الذي شجعنا على انشاء كلية الذكاء الاصطناعي في الجامعة والتي باشرت عملها في عام 2019، وهو الامر الذي عارضه البعض في ذلك الوقت والسبب قد يعود لعدم قدرتهم على استيعاب التغيرات المتسارعة في العالم في هذا المجال او لعدم ثقتهم بالقدرة على انشاء الكلية، إلا أن الفكرة نفذت على ارض الواقع.
كنتيجة للسرعة في اقامة المركز كنموذج للتعاون ولقصص النجاح التي تحققت من خلال نشاطات المركز في التعليم الإلكتروني وتطبيق الانظمة الإلكترونية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وللثقة التي تم بناؤها مع مؤسسة KOICA ومع فريق السفارة الكورية، فقد تم وقتها المباشرة بالبدء بنقل بعض النماذج الكورية في التعليم التقني والتطبيقي الى الجامعة، كما وقدمت مؤسسة كويكا دعماً مالياً بقيمة 6 ملايين دولار اميركي للمباشرة بهيكلة كليتي اربد والكرك وكان ذلك بتاريخ 12/7/2021، كما وتم تقديم دعم مالي اضافي بقيمة 413 ألف دولار لتطوير الخطط الدراسية للتعليم الالكتروني في الجامعة، وأذكر أن أول دفعة من هذه المبالغ كانت قد وصلت الى الجامعة في شهر تشرين الأول من عام 2021.
إن تجربتي في دراسة النماذج والتجارب العالمية والتي أدت في ذلك الوقت الى اعداد برنامج وطني لتطوير المسارات المهنية والوظيفية ومنح الشهادات المهنية، وكانت رائدة في هذا المجال وحظيت بدعم ومباركة من بعض الجهات الدولية التي ابدت استعدادها لتقديم الدعم لتنفيذها ومنها الوكالة الكورية KOICA والالمانية GIZ والحكومة الايطالية والتي قدمت مبلغ 15.5 مليون دينار لهيكلة كلية عجلون وانشاء مركز لترميم الآثار يكون نواة لكلية جرش التقنية (والتي تشرفت مدينة جرش بأن قام جلالة الملك بوضع حجر الاساس لها بتاريخ 3/5/2023)، إلا أن التردد في اتخاذ القرار في الوقت المناسب كان قد أخر البدء بتنفيذ برنامج المسارات المهنية والتطور الوظيفي ومنح الشهادات المهنية لأكثر من 3 سنوات، وهو البرنامج الذي كان قد قدم لمجلس التعليم العالي بتاريخ 3/1/2019، وتمت الموافقة الاولى على تنفيذ اربعة برامج منه في شهر اب عام 2021، الا ان الموافقة على منح الشهادات المهنية تأخر صدورها حتى شهر نيسان 2024، حيث صدرت الموافقة من قبل مجلس الوزراء على ذلك بجلسته المنعقدة بتاريخ 24/4/2024، اي بعد خمس سنوات من طرح الموضوع على مجلس التعليم العالي.
لقد كنت وما زلت من الداعمين لفكرة نقل المناذج التعليمية العالمية التي حققت نجاحات عالمية، كالتجربة السنغافورية او الكورية، لا الى اجراء التجارب والانتظار للحصول على نتائج من الممكن لها ان تفشل، الامر الذي يدفعنا الى البدء من جديد. كما وكنت من الداعمين لنقل المناهج العلمية كاملة كمناهج سنغافورة او كوريا الجنوبية كما هي واضافة مناهج اللغة العربية والتربية الاسلامية والوطنية اليها.
كما انني من الداعمين لأن يتم حصر جميع خطط اعداد وتدريب وتأهيل المعلمين وفي كافة المراحل بدءا من مرحلة ما بعد الثانوية العامة الى حصول المتميزين منهم على درجة الدكتوراة في اكاديمية الملكة رانيا لتدريب المعلمين وكما هو معمول به في المعهد الوطني للتعليم في سنغافورة. كما ارى الا تكتفي اكاديمية الملكة رانيا بتقديم البرامج التأهيلية للمعلمين في مسارات التعليم للمعلمين او مسارات التعلم لقادة المدارس او مسارات التعلم لمرشدي المدارس ومنح المعلمين الشهادات المهنية، بل ارى انه لمن الضروري ان تتوسع في ذلك وتعمل على منح الشهادات الخاصة بالمعلمين من البكالوريوس والماجستير والدكتوراه وان تقوم وزارة التربية والتعليم باختيار الطلبة المتميزين من خريجي الثانوية العامة واجراء مقابلات لهم من قبل فريق متخصص بعيداً عن المجاملة او المحاصصة لاختيار الاعداد المطلوبة للوزارة سنوياً وابتعاثهم الى الاكاديمية للحصول على التأهيل والمهارات الرقمية اللازمة لمعلم القرن الواحد والعشرين لكي نضمن جودة المخرج والمؤهل للعمل في المدارس في المستقبل القريب.