بين خطابي نعيم قاسم وخليل الحيّة
ماجد كيالي
أتت كلمة نعيم قاسم الأمين العام لـ"حزب الله" في العشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وبعدها كلمة خليل الحيّة في 21 من الشهر نفسه، والذي احتل المكانة الأبرز بين قياديي "حماس"، بعد اغتيال إسرائيل لرئيسي المكتب السياسي السابقين (إسماعيل هنية ويحيى السنوار)، متقاربتين، من حيث الزمن، والمضمون.
فهاتان الحركتان اللتان تصدرتا محور "المقاومة والممانعة"، طوال العقدين الماضيين، وتحدي وجود إسرائيل، باعتبارها دولة "أوهن من خيط العنكبوت"، وآيلة للانهيار، باتتا في مركز الاستهداف الإسرائيلي، بعد هجوم "حماس" في عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول سنة 2023، وجبهة إسناد "حزب الله" لغزة، واللتين ارتكزتا على فكرة "وحدة الساحات"، وشنّ حرب كجيش لجيش وصاروخ لصاروخ.
بيد أن النتيجة بعد قرابة 14 شهرا تكشفت عن نكبة جديدة مهولة للفلسطينيين وللبنانيين، إذ تبين أن إسرائيل لا تبالي بـ"قواعد اشتباك" موهومة، وأنها قادرة على شن "حرب طويلة الأمد"، وتحمّل أكلاف بشرية واقتصادية عالية، وأن تحوّل هزيمتها وخسائرها العسكرية والاستخباراتية والبشرية، يوم "هجوم الطوفان"، إلى فرصة سانحة تحاول فيها تغيير وضع الفلسطينيين ووضع لبنان، وربما سوريا والعراق، وتحجيم إيران.
وفي المحصلة، بدلا من رفع الحصار عن غزة باتت خرابة، وتخضع لاحتلال عسكري متوحش، يعيش فيها قرابة مليوني فلسطيني في معازل أشبه بسجون، تفتقد للحد الأدنى للعيش، وهو الأمر الذي بات يشمل جنوب لبنان، والضاحية الجنوبية لبيروت، ومناطق في البقاع. وبدلا من إضعاف إسرائيل باتت أقوى من أي يوم كانته منذ إقامتها، كما أن تلك المواجهة، أدت إلى شد عصب الإسرائيليين، كما وثقت علاقات إسرائيل بالولايات المتحدة أكثر من ذي قبل.
المشكلة أن كل ذلك لم يدخل بعد في إدراكات من تبقى من قيادات "حماس" و"حزب الله"، إذ ما زال ثمة مكابرة، وإنكار للوقائع ولموازين القوى، وللتدهور المريع في أحوال الفلسطينيين واللبنانيين، وحتى للضعف الذي ألمّ بـ"الحزب" والحركة نتيجة الضربات الإسرائيلية، رغم التراجع عن الأطروحات أو التوهمات، السابقة غير الواقعية.
يتمثل ذلك، بداية، في طلب الطرفين وقف إطلاق النار ووقف القتال، بعد أن كانا يدعوان إلى شنّ الحرب أو استمرار المقاومة (راجع خطاب محمد الضيف يوم السابع من أكتوبر 2023 وخطابات نصرالله حتى قبيل اغتياله بأيام)، وهذا ما توافق عليه قاسم والحية في كلمتيهما، واعتبار أن إسرائيل هي التي تصر على استمرار الحرب.
التوافق حصل أيضا بطرح شروط، بالنسبة لقاسم يجري التفاوض "تحت سقفين، وقف إطلاق النار بشكل كامل، وحفظ السيادة اللبنانية، وعدم السماح لإسرائيل بانتهاك سيادة لبنان والدخول إليه والقتل كما تشاء". أما بالنسبة للحيّة فقد أكد أنه: "لا صفقة تبادل دون وقف الحرب على قطاع غزة... وعودة النازحين"، والفكرة أن هذه الأطروحات صحيحة تماما، ومحقة ومشروعة، بيد أنه لا "الحزب" ولا الحركة كانا يشتغلان وفقها قبل الحرب؛ علما بأن غزة ما قبل "طوفان الأقصى"، التي يريدها الحية، لم تعد موجودة، كما أن الأمر ينطبق على مناطق في لبنان.
أيضا، توافق الطرفان على نفاذ صلاحية "وحدة الساحات" فإيران نأت بنفسها، والنظام السوري غير معني، و"حزب الله" سحب إسناد غزة بتغير الأوضاع والمعطيات، مع ذلك فإن الطامة الكبرى تمثلت في توجيه الحية اللوم لـ"الأمة العربية الإسلامية بما تملكه من مقدرات" كونها "لا تستطيع أن تلزم العدو بوقف الحرب"، كأنه يعيش في قارة أخرى.
يلاحظ أن الكلمتين منفصمتان عن الواقع، كأن شيئا لم يتغير في معادلات القوة، أو كأن الاشتباك مع الجيش الإسرائيلي أو القصف هنا أو هناك بين فترة وأخرى، يوازن ما فعلته إسرائيل بالفلسطينيين واللبنانيين، في حرب الإبادة الجماعية، والمآسي المهولة الناجمة عنها. يقول قاسم: "لا يمكن أن تهزمنا إسرائيل وتفرض شروطها علينا... الكلام للميدان... بقسميه في البر وعبر قصف الصواريخ والمسيرات، ولدينا القدرة على الاستمرار لمدة طويلة... أعددنا لمعركة طويلة، ونحن نتفاوض الآن، ولكن ليس تحت النار لأن إسرائيل أيضا تحت النار".
الانفصام حصل عن شعارات وخطابات "الحزب" والحركة في مرحلة ما قبل الحرب، كما بدا في قول قاسم: "سنقدم مساهمتنا الفعالة لانتخاب الرئيس من خلال المجلس النيابي بالطريقة الدستورية. وستكون خطواتنا السياسية تحت سقف (الطائف)، كما سنكون حاضرين في الميدان السياسي لنبني ونحمي".
أما الحية فتحدت عن قبول حركته تشكيل لجنة لإدارة قطاع غزة، في حين كانت قبل الحرب لا تقبل أي شريك معها، ولو كان حليفا لها، في إدارة السلطة. وبحسب الحية: "نحن لا نغفل أي فرصة يمكن أن تسهم في تحقيق توافق وطني داخلي، ونحن نعمل على ذلك من موقع المسؤولية".
بالطبع، يمكن لأية حركة سياسية أو حركة تحرر وطني، واثقة من نفسها، أن تعترف بفشلها أو هزيمتها أو عجزها، في حين أن المكابرة والإنكار، يفيدان بأن تلك الحركة غريبة عن مصالح شعبها، أو لا يهمها سوى بقائها كسلطة، وهذا دارج في الحياة السياسية العربية، حيث ثمة فارق كبير بين الأقوال والأفعال، والشعارات والإمكانيات، والخيال والواقع، وحيث تغييب المصلحة العامة أو مصلحة الشعب لصالح المصلحة الخاصة أو مصلحة السلطة.
مثلا، كنا انتهينا مع الأنظمة "القومية" و"التقدمية"، وفقا لمصطلحات الستينات والسبعينات، إلى استعصاء ما يسمى "القضايا الكبرى" المتمثلة بتحرير فلسطين، ومركزية القضية الفلسطينية، وإنجاز الوحدة، والحرية والاشتراكية؛ كأن قضايا معيشة وحقوق المواطن هي قضايا صغرى. في المقابل، توسعت إسرائيل، في حرب يونيو/حزيران 1967، وباتت حرب أكتوبر1973 آخر الحروب العربية الإسرائيلية- النظامية، ثم شهدنا أفول الصراع العربي- الإسرائيلي، بعقد مصر اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل عام (1979)، وانفتاح مسار التطبيع معها. أما قضية الوحدة، وأقله التكامل الاقتصادي العربي، فتكسرت على الجفاء والعداء الحاصل بين الأنظمة في سوريا ومصر والعراق، في حين لم يكن مصير فكرتي الحرية والاشتراكية أحسن حالا، مع الافتقاد لمفهوم المواطنة، وقصور تطور الدولة.
بالنتيجة فإن كل الحركات السياسية في العالم العربي، لم تسلم من هذا المآل البائس، إذ آلت إلى حالة مريعة من الفشل والعجز والقصور والهشاشة، بتياراتها القومية واليسارية والإسلامية، إلى درجة لا يمكن أن يلحظ معها أي نجاح لأي منها، بقدر ما يلحظ عزلتها وأفولها في مجتمعاتها.
حتى في المثال الفلسطيني بدا أن إسرائيل نجحت في الاستراتيجيات التي استخدمتها لتجويف الحركة الوطنية الفلسطينية، وتحويلها من حركة تحرر وطني إلى سلطة، ثم اثنتين، ما أوصلها إلى الضياع، وتبديد التضحيات، مع افتقادها لرؤية وطنية جامعة تطابق بين الشعب والأرض والقضية، ولاستراتيجية كفاحية ممكنة ومستدامة ومجدية، ويمكن الاستثمار فيها.
طبعا حديثنا كله ينطوي على تأكيد مشروعية المقاومة، طالما ثمة احتلال، وإسرائيل استعمارية واستيطانية وعنصرية وعدوانية، لكنّ ثمة فرقا كبيرا بين نهج المقاومة الذي يتأسس على فهم موازين القوى، والمعطيات السياسية الداخلية والخارجية، وإمكانية استثمار التضحيات في إنجازات سياسية، وتحقيق الغلبة بالتراكم وبالتدريج، وبين الحرب كجيش لجيش، وبالضربة القاضية، فهذا هو المربع الذي تتفوق فيه إسرائيل، وتطلق فيه يدها للبطش بالفلسطينيين، جملة وتفصيلا، وهذا ما كان يفترض تجنبه، كي نتجنب تلك الكارثة.