علم الاجتماع تأليف أنتوني غيدنز
إبراهيم غرايبة
يعتبر أنتوني غيدنز من علماء الاجتماع الذين على قيد الحياة الأكثر تأثيرا في العلم والسياسة والاقتصاد، فقد أدخل علم الاجتماع في حقول معرفية وعملية جديدة أثرت في السياسة والاتجاهات العالمية، ويعتبر كتابه «الطريق الثالث: تجديد الديمقراطية الاجتماعية» الملهم الأساسي لقادة سياسيين واتجاهات سياسية واجتماعية فاعلة ومؤثرة في العالم، وأما كتابه «علم الاجتماع» فهو الأكثر تداولا في التدريس الأكاديمي، كما هو كتاب يتداوله المثقفون على نطاق واسع. وقد كانت ترجمة الدكتور فايز الصياغ رحمه الله إلى العربية للكتاب إضافة راقية، إذ قدم صياغة لغوية ومعرفية جعلت المعرفة ممتعة للقراءة.
علم الاجتماع هو الدراسة المنهجية للمجتمعات البشرية مع التأكيد على نحو خاص على النظم الصناعية الحديثة.
يتساءل غيدنز: كيف وصل عالمنا المعاصر إلى هذه الحال؟ لماذا تغيرت واختلفت ظروف حياتنا عما كانت عليه في عهد آبائنا وأجدادنا؟ هذه بعض الأسئلة التي تشغل علم الاجتماع. إذ يعني بدراسة الحياة الاجتماعية والجماعات والمجتمعات الإنسانية.
المجتمعات الإنسانية في حالة مستمرة من التشكل. إنها تبنى وتتشكل في كل لحظة. كيف يساعدنا علم الاجتماع في استيعاب ومواكبة هذه التغيرات؟ لقد برز علم الاجتماع باعتباره جزءا من المسيرة الثقافية المهمة وقد مهدت لظهوره سلسلة من التغيرات والتحولات الكبرى، مثل الثورة الفرنسية 1789 التي جسدت انتصار الأفكار والقيم العلمانية مثل الحرية والمساواة على النظام الاجتماعي القديم، وكذلك الثورة الصناعية التي تكرست باستخدام الطاقة البخارية والمعدات الآلية. وسعى مفكرو القرن التاسع عشر إلى الإجابة على أسئلة مثل: ما هي الطبيعة الإنسانية كيف يبنى المجتمع على هذا النحو؟ ومن أهمهم اوغست كونت (1798 – 1857) وإميل دوركهايم (1858- 1917) الذي يعتقد أن للمجتمعات كينونة وواقع مستقل بحد ذاته، تجسد هذه الحقائق الاجتماعية طرق الفعل والتصرف والتفكير أو الشعور التي تقع خارج الأفراد، وتتمتع بوجودها الواقعي خارج حياة الأفراد ومداركهم. وتمارس الحقائق الاجتماعية برأي دوركايم سلطة إرغامية على الأفراد، غير أن الأفراد في أغلب الأحيان لا يدركون طابع الإرغام الذي تنطوي عليه هذه الحقائق الاجتماعية متوهمين أنهم يمارسون هذه الخيارات بحرية. والواقع أنهم يتبعون أنماط التفكير والسلوك الغالبة في مجتمعهم. ويمكن الحقائق الاجتماعية أن تعيد الفعل الإنساني بوسائل شتى تتراوح بين العقوبة والرفض الاجتماعي. وقد أثر دوركايم كثيرا في استيعاب التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، ففي كتابه «تقسيم العمل» قدم تحليلا للتغير الاجتماعي قال فيه إن مرحلة التصنيع قد أدت إلى بروز نوع جديد من التضامن، ومن ثم وضع خطا مميزا بين نوعين من التضامن؛ هما: التضامن الآلي، والتضامن العضوي. وربط بينهما وبين تقسيم العمل في المجتمع والتوسع والتمايز بين المهن والحرف المختلفة.
وهناك المفكر الأكثر شهرة، وهو كارل ماركس (1818 – 1883) الذي ركز في تفسيره للتغيرات الاجتماعية على تطور الرأسمالية، وهي نظام للإنتاخ يختلف جذريا عن النظم الاقتصادية السابقة في التاريخ. إذ يتميز النظام الرأسمالي بإنتاج السلع والخدمات وبيعها. وحدد ماركس عنصرين أساسيين يميزان نظم الإنتاج الرأسمالي، رأس المال (الأصول والموجودات والمال والمعدات،..) والعمل بأجر. وقال إن العلاقة بين رأس المال والعمل تنشئ صراعا طبقيا بين أصحاب العمل وبين الطبقة العاملة (البروليتاريا) وهو صراع يزداد حدة مع الزمن.
ترتكز وجهات نظر ماركس إلى ما يسميه «المفهوم المادي للتاريخ» إذ يرى أن حوافز التغير الاجتماعي تتمثل في المقام الأول بالمؤثرات الاقتصادية. والصراعات بين الطبقات هي التي تدفع إلى التطور، لأنها محرك التاريخ طالتاريخ البشري هو تاريخ الصراع بين الطبقات»
وجاء ماكس فيبر (1864 – 1920) ملهم المحافظين حتى اليوم. يرى فيبر خلافا لماركس أن الأفكار والقيم لها أهمية تأثير على التغير الاجتماعي مثل العوامل الاقتصادية. ويرى أن علم الاجتماع يجب أن يركز على «الفعل الاجتماعي» كان فير يعتقد خلافا لدوركهايم وماركس أن البنى الاجتماعية تتشكل بتفاعل تبادلي معقد بين الأفعال وليست مستقلة عن الأفراد. ويرى فيبر أن ما يميز الرأسمالية ليس الصراع الطبقي كما يعتقد ماركس، لكن تطور العلوم والبيروقراطية، أي المؤسسات الضخمة.
تشدد المدرسة الوظيفية في علم الاجتماع على أهمية الإجماع الأخلاقي في الحفاظ على النظام والاستقرار في المجتمع، ويرى الوظيفيون أن النظام والتوازن يمثلان الحالة الاعتيادية في المجتمع. في المقابل يقول منتقدو الوظيفية إنها تغالي في التشديد على العوامل المؤدية إلى التماسك الاجتماعي على حساب العوامل الأخرى التي تنشأ في المجتمع على أساس الطبقة والعرق والجنس، كما أن الوظيفيين يقللون من دور الفعل الاجتماعي الخلاق في المجتمع.
ومثل الوظيفيين؛ يؤكد «الصراعيون» على أهمية البنى الاجتماعية، ويقدمون نموذجا نظريا شاملا لتفسير عمل المجتمع، لكنهم يرفضون تأكيد الوظيفيين على الإجماع، ويبرزون بدلا من ذلك أهمية الخلاف والنزاع داخل المجتمع، ويركزون على قضايا السلطة والتفاوت والنضال. ويميلون إلى دراسة مواطن التوتر بين المجموعات المسيطرة والمستضعفة في المجتمع. ومن أبرز ممثلي هذا المجتمع رالف دارندوف.
وأما نظريات الفعل الاجتماعي فتولي قدرا أكبر من الأهمية لدور الفعل والتفاعل بين أعضاء المجتمع في تكوين هذه البنى، ويكون دور علم الاجتماع في استيعاب المعاني التي ينطوي عليها الفعل الاجتماعي والتفاعل، لا تفسير طبيعة القوى الخارجية التي تدفع الناس إلى نمط معين من الأفعال.
إذا كان الوظيفيون والصراعيون يطرحون النماذج حول الطريقة التي يعمل بها المجتمع فإن الملتزمين بنظرية الفعل الاجتماعي يركزون على تحليل الأسلوب الذي يتصرف به الفاعلون الأفراد أو يتفاعلون به فيما بينهم من جهة، وفيما بينهم وبين المجتمع من جهة أخرى. تأثرت هذه المدرسة على نحو غير مباشر بأفكار ماكس فيبر، غير أن أصولها المباشرة كانت في أعمال الفيلسوف الأمريكي جورج هربرت ميد (1863 – 1931)
وتعن مدرسة التفاعلية الرمزية باللغة والمعنى. يزعم ميد أن اللغة تتيح لنا الفرصة لنصل إلى مرحلة الوعي الذاتي وندرك ذاتنا، ونحس بفرديتنا، كما أنها تمكننا من أن نرى أنفسنا من الخارج مثلما يرانا الآخرون. العنصر الرئيسي في هذه العملية هو «الرمز»
يقدم المنظور التفاعلي الرمزي إضاءات على طبيعة أفعالنا في غضون حياتنا الاجتماعية اليومية، غير أن هذه المدرسة تتعرض للنقد لأنها تهمل القضايا الاوسع التي تتعلق بالسلطة والبنى الاجتماعي، وبالطريقة التي يفرضان بها القيود على الفعل الفردي.
تعني الثقافة في نظر علماء الاجتماع جوانب الحياة الإنسانية التي يكتسبها الإنسان بالتعلم لا بالوراثة. ويشترك أعضاء المجتمع بعناصر الثقافة التي تتيح لهم مجال التعاون والتواصل. وتمثل هذه العناصر السياق الذي يعيش فيه أفراد المجتمع. تتألف الثقافة من جوانب مضمرة غير عيانية، مثل: الآراء والمعتقدات والقيم التي تشكل المضمون الجوهري للثقافة. وجوانب عيانية ملموسة مثل الأشياء والرموز أو التقانة التي تجسد هذا المضمون.
وتحدد القيم والمعايير بما هي منظومة الأفكار ما هو مهم ومحبذ ومرغوب في المجتمع. وتعمل على تشكيل الأسلوب الذي يتصرف به أفراد ثقافة ما تجاه ما يحيط بهم.
إن السلوك البشري معقد ومتعدد الجوانب والأبعاد، بحيث لا يمكن لمنظور واحد أن يستوعبه أو يفسره. وهذا ينشئ مأزقا لعلم الاجتماع المعاصر، ومن أهم هذه التحديات: المأزق الأول: الفعل البشري: البنية والفعل. إلى أي حد نكون فاعلين بشريين ناشطين نتحكم في الشروط والظروف التي تكتنف حياتنا الإنسانية؟ أم الجانب الأغلب مما نقوم به هو نتيجة للقوى الاجتماعية العامة التي لا نملك السيطرة عليها؟
والتحدي الثاني هو الإجماع والصراع؛ فترى بعض النظريات أن المجتمعات تنزع إلى النظام والانسجام فيما بينها، وترى نظريات أخرى أن أبرز ما يميز المجتمع البشري هو الصراع.
يقف الفيلسوف الفرنسي الأكثر تأثيرا في جيل المثقفين من مواليد الأربعينات والخمسينات؛ ميشيل فوكو موقف المعارضة تجاه الإجماع العام على طبيعة المعرفة العلمية، وخلافا لما يفعله أغلب الباحثين عندما يستخدمون ما هو «مألوف» في حياتنا المعاصرة لاكتشاف ما هو «غير مألوف» من الدلالات والظواهر فإن فوكو ينقب عن أنماط التفكير التي كانت سائدة في عصور ماضيه أو ما يسميه «أركيولوجية المعرفة» لاكتشاف المعاني الجديدة التي اكتسبها في حياة المؤسسات الحديثة.
يكاد يكون عالم اليوم نتاجا لثورات كبيرة؛ الفرنسية والأمريكية والبلشفية. وحاول حاول تشارلز تيللي أن يحلل عمليات التغيير الثوري في ضوء إطار للتفسير العام لتعبئة الحركات الاجتماعية في الأزمنة الحديثة. الحركات الاجتماعية هي وسائل لتعبئة موارد الجماعة التي تكون متبعثرة في إطار نظام سياسي معين، أو تكون تعرضت للقمع من قبل سلطات الدولة. وتميل الحركات الثورية إلى اكتساب قوة دفع في ظرف تعدد السيادة، وبخاصة إذا حاولت الحكومة القائمة أن تبقى على قوتها باستخدام أساليب القمع.
يميل تيللي إلى الافتراض بأن الحركات الثورية يحركها السعي الواعي والهادف إلى تحقيق المصالح، وأن الأساليب «الناجحة» من التغيير الثوري تظهر عندما تحاول هذه الحركات تحقيق تلك المصالح. وأما تيدا سكوكبول فقد اعتبرت أن هذه الحركات تعاني عادة من غموض أهدافها وتأرجحها. وترى أن التغيرات الكبرى نتيجة غير مقصودة للأهداف الجزئية التي تحاول الحركات تحقيقها. فالأزمات تحدث عندما تفشل الحكومة في أن تتوافق مع متطلبات المواقف العالمية المتغيرة.
الحال كما يقول غيدنز أن معالم العالم المعاصر يتشكل من خلال التفاعل بين هذه الأشكال من التعبئة الاجتماعية وما يترتب علها من نتائج غير منظورة.