المسيحية في الأردن.. بين السياسة والقانون
د. يزن دخل الله حدادين
منذ إعلان نتائج الانتخابات النيابية الأردنية الأخيرة ازدادت الكتابات والتصريحات المبنية على نظرية المؤامرة الدينية وتسييس الشرائع الدينية بشكل يغالط الواقع. وهنا أعني الملف الذي يتعلق بالشأن الأردني المسيحي السياسي. فالمسألة الدينية ذات حساسية بالغة ومسألة يدور حولها الجدل حيث أن العلاقة بين الدين والسياسة هي قضية معقدة على مدى التاريخ في جميع أنحاء العالم.
من المهم لفت الانتباه هنا إلى أن علاقة الدين بالسياسة عامة، وبالدولة الأردنية خاصة، لا يمكن فهمها بمعزل عن سياقات التاريخ السياسي الأردني، حيث أن المسيحيين الأردنيون هم من أقدم المجتمعات المسيحية فى العالم حيث انتشروا فى الأردن فى بدايات القرن الاول الميلادي. كما أن الحديث عن المسألة الدينية في الأردن لا ينفصل عما يمكن تسميته بالنهضة الحديثة التي فرضت نفسها على الفضاء السياسي الأردني برعاية هاشمية خلال القرن الأول من عمر المملكة الأردنية الهاشمية.
المسيحية في الأردن ليست حديثة النشأة ولم تنشأ في فراغ سياسي، بل أنها موجودة في ظل دولة قوية نافذة، وانصرفت المسيحية الأردنية إلى الشأن العقدي للناس وتجردت عن كل ما هو غير أردني، وهذا ما نقلته المصادر التاريخية في الأردن، فكانت المسيحية بذلك ديناً في دولة قوية دستورية ديموقراطية.
يجادل بعض المنظرين العلمانيين، سواء من المنتمين إلى الأقليات اللادينية أو الأقليات الحزبية الداعمة للعلمانية، في التمييز بين الأغلبية الدينية والأغلبية السياسية، ويزعمون أن التي تحكم في المجلس النيابي هي الأغلبية الدينية وليس الأغلبية السياسية، وأن ليس للأقلية المسيحية أهمية سياسية في ذاتها، ويتهيىء لهم أن الديمقراطية تتعارض مع الدين (سواء الدين الاسلامي أو المسيحي)، وإنما حكْم الأغلبية فحسب وهذا كلام لا يستقيم على إطلاقه، بل يحتاج إلى استدراك العديد من الأمور منها أن الديمقراطية لا تنبت في فراغ ثقافي واجتماعي، والدولة ليست كياناً إجرائياً مجرداً. كما أن الفرق بين السياسة العملية المجردة من صراع القيم والسياسة القيَمية التأسيسية التي يظهر فيها التمايز بين الهويات الدينية والثقافية للمواطنين تتعلق بالهوية والانتماء والقيم الاجتماعية.
لعبت المسيحية في الأردن دوراً رئيسياً في تشكيل أسس وسمات الثقافة والحضارة الأردنية. إذ أثرّت المسيحية بشكل كبير على المجتمع بما في ذلك الفنون واللغة والحياة السياسية والقانون وحياة الأسرة. وبشكل عام، وعلى مر العصور، للمسيحيين مساهمات كبيرة في تطوير الحضارة الإنسانيّة، كما ويُذكر أن هناك المئات من المسيحيين البارزين الذين ساهموا في الحضارة الإنسانية والمجتمع العربي من خلال تعزيز وتطوير العلوم، الطب، الفن، الموسيقى، الأدب، المسرح، الفلسفة، العمارة، الإقتصاد والسياسة.
لكن العرب يمرون بمرحلة خطرة تهدد مستقبل المنطقة. فالفراغات التي خلفها العرب سمحت للطائفية والإرهاب والتدخلات الأجنبية بملء هذا الفراغ واستغلاله، مما ساهم في ارتباك المصالح وتصاعد الخلافات العربية التي باتت تهدد أمن المنطقة واستقرارها. وهذا يفسر تدخل من ليس لهم علاقة بالملف المسيحي في أمور تخص الشأن المسيحي السياسي في الأردن.
وفي العودة إلى بداية هذا المقال، فإن من يسعى لاثارة البطولات الدينية يدعي برفض الدولة لمسودة قانون الوصايا والمواريث للمسيحيين في الأردن دون تحديد للجهة التي رفقضت ذلك، متجاهلاً أن الأصل الدستوري الأردني كفل حق تطبيق القانون الديني على مسائل الأحوال الشخصية والتي من ضمنها الإرث، ولكن لتمسك كل طائفة مسيحية في الأردن بأحكام الإرث الخاصة بها وعدم وجود أحكام للإرث لدى بعض الطوائف هو العائق الأبرز الذي كان يصعب الوصول إلى قانون إرث موحد للمسيحيين مما استدعى
تطبيق الشريعة الإسلامية حول الميراث على جميع الأردنيين (ما يعني شمول المسيحيين في هذا النص) دون أن يصادر الأصل الدستوري. لقد نسي أو تناسى من يدعي بعدم وجود ديموقراطية تكفل حقوق المسيحيين أن المسيحيون مندمجين بشكل عميق في المجتمع الأردني ويتمتعون بمستوى عالٍ من الحرية. ويشكل المسيحيين جزءًا كبيراً وهاماً من النخبة السياسية والاقتصادية في المملكة. وأن على المسيحيين إنتاج النخب السياسية الجديدة والأصل في ذلك من خلال مجلس النواب للمطالبة بتشريع أي قانون يحقق ما يتناسب مع رغباتهم من وجهة نظر دينية وأن الدولة تكفل ذلك من خلال الإجراءات المعروفة للتشريع وفقاً لأحكام الدستور الأردني.
ختاماً، العلاقة بين الدين المسيحي والدولة الأردنية هي علاقة دستورية برعاية هاشمية وقانونية واجتماعية وثقافية وهناك من يسعى يائساً لتحوليها لعلاقة جدلية يستغلها من أجل تحقيق مآرب وأطماع لتصدر المشهد السياسي. إن الناظر في حال المجتمع الأردني يشهد أن العلاقة بين الدين المسيحي والدولة الأردنية هي علاقة تصالحية تكاملية فلم يكن الدين المسيحي سبباً من أسباب تخلف المجتمع ولم يكن سبباً من أسباب إقحام الدولة الأردنية بصراعات خارجية بل على العكس لقد كان سبباً في تقديم نماذج فريدة للتوافق والشراكة والتطور المجتمعي والسياسي.