معضلة السير في الأردن بين هيمنة التحديات وضرورة الحلول.. خبيران يوضحان

{title}
أخبار الأردن -

 

مشكلة السير في الأردن ليست مجرد قضية مرورية، بل هي مشكلة اجتماعية عميقة تطرح أولى التحديات في كيفية التعامل مع السائقين وفقًا لأسس علمية وسيكولوجية، بما يضمن تحقيق رضا متلقي الخدمة.

إن تحقيق هذا الرضا يتطلب جهدًا كبيرًا في إيجاد التوازن بين الدور الرقابي لرقيب السير واحتياجات المواطنين. 

فالسؤال الذي يطرحه هذا التحدي هو: كيف يمكن لرقيب السير أن يحقق رضا المواطنين وهو في ذات الوقت يفرض عليهم النظام؟

في هذا السياق، تتزايد أهمية الدور الحازم لرقيب السير في معالجة الاختلالات المرورية، حيث تُعدّ القدرة الاستيعابية للشوارع عاملًا حاسمًا في تنظيم وجود رقيب السير. 

ويشكل التوقيت المحوري لذروة الازدحام جزءًا من هذه المسألة، لاسيما في ظل نمو عدد المركبات بنسبة تقارب 2% عن عام 2022، ليصل عدد المركبات المسجلة إلى نحو مليون و930 ألف مركبة، فيما بلغ عدد السائقين نحو 3 ملايين سائق.

تعكس هذه الأعداد ضخامة التحدي الذي يواجهه الجهاز المروري في تنظيم حركة المرور والحد من الحوادث، إذ تسجّل المملكة نحو 560 وفاة سنويًا نتيجة الحوادث المرورية، ليصل معدل الوفيات لكل مئة ألف شخص إلى 5.3 في عام 2023، مقارنة بـ 4.9 في عام 2022.

وتشير هذه الإحصائيات إلى ضرورة العمل على تغيير الواقع المروري بأساليب أكثر حزمًا. فالحملات التوعية وحدها غير كافية، وفاعلية القانون تكمن في الحزم والتنفيذ الصارم. فالاعتراضات المتكررة على المخالفات لا تركز على صحتها بقدر ما تركز على قيمة الغرامات المفروضة، ما يعكس نقصًا في إدراك المخاطر الفعلية لهذه التجاوزات. واستمرار هذا النمط من الاعتراضات قد يؤدي إلى تزايد معدلات الوفيات بدلًا من تقليلها.

إن العقوبة الرادعة وُضعت لتكون وسيلةً لضبط السلوكيات وتحقيق الردع العام والخاص، فعندما يوقف رقيب السير حركة المرور، فإنه يعتمد على قواعد علمية وخبرة واسعة في الميدان، وليس على مزاج شخصي أو انطباعات عشوائية.

ولعل الحديث هنا يقودنا إلى الدور الكبير الذي يلعبه الإعلام في تشكيل وعي الجمهور. فالإعلام المحلي عادةً ما يُبرز تجاوزات رقيب السير وينتقد مخالفاته، لكنه يغفل في المقابل عن التركيز على المتسببين الحقيقيين في الحوادث.

 كما أن الحوادث تزداد نتيجة الاستخدام المتكرر للهاتف النقال أثناء القيادة، إذ سُجل نحو 26 ألف حادث مرور ناتج عن استخدام الهاتف، ما يستدعي تشديد القوانين وتطبيق نظام النقاط المرورية بشكل حازم.

إن تطبيق القوانين على هذا النحو الحازم قد يكون له تأثير إيجابي في توجيه سلوك مستخدمي الطريق نحو الالتزام. فتتجلى أهمية الرقابة المستمرة في أن يشعر السائق بأنه مراقب على مدار الساعة، فيُدرك خطورة السلوكيات المتهورة.

وفي ظل ارتفاع تكاليف الحوادث المرورية، التي تقدر بنحو 321 مليون دينار سنويًا، تتضح التأثيرات الاقتصادية لهذه الحوادث على الدولة، فهي تُلقي بظلالها على الاستثمار وتشكّل عبئًا إضافيًا على الاقتصاد، فضلًا عن إهدار الوقت والموارد. 

وقد أصبحت كاميرات السرعة في نظر المواطن الأردني أشبه بمطبّاتٍ تعمل على إبطاء الحركة، فيما تُظهر الإحصائيات أن 97% من المخالفات الغيابية كانت صحيحة، وهو ما يؤكد أنّ ضبط المخالفة مبني على أسس دقيقة تتجاوز السبب المباشر للحادثة.

وفي هذا الصدد، قال الخبير القانوني والأخلاقيات الدكتور صخر الخصاونة إن القيادة تعد سلوكًا معقدًا يتأثر بشكل كبير بتصرفات الأفراد في المجتمع، ويعكس بوضوح ثقافته وقيمه. فأسلوب مستخدمي الطريق، سواء كانوا سائقين أو مشاة، يعكس تفاصيل الحياة اليومية ومستوى التزامهم بقواعد السير، التي تمثل جزءًا لا يتجزأ من النظام العام لأي دولة.

وأوضح في تصريح خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن المجتمعات الديمقراطية تتميز بتطبيق أفرادها للقوانين والأنظمة، بما في ذلك قواعد السير. فعلى سبيل المثال، تُعد مشاهد المركبات المتوقفة بانتظام عند إشارات المرور علامة حضارية تُظهر احترام الأفراد لحقوق الآخرين وحفظ سلامتهم. كما أن الالتزام بقواعد المرور لا يرمز فقط إلى نظام مروري متزن، بل يعكس أيضًا مدى نضج المجتمع وحرص أفراده على بناء بيئة آمنة للجميع.

وأكد الخصاونة أن التجارب العملية تظهر أن الدول الديمقراطية تتميز بانخفاض استخدام أبواق المركبات، حيث تُستخدم غالبًا في الحالات الطارئة فقط. مضيفًا أن هذا السلوك يشير إلى وعي الأفراد بأهمية احترام حقوق الآخرين والالتزام بقيم التعاون والمسؤولية المشتركة. وعلى النقيض، نجد أن الدول التي تعاني من نقص في القيم الديمقراطية غالبًا ما تشهد سلوكيات مرورية غير منظمة، مما يسهم في ارتفاع معدلات الحوادث والإصابات.

ورغم ذلك، ينبغي الإقرار بأن التغيير السلوكي لا يتحقق بفرض العقوبات وحدها، بل يتطلب تكاملًا في الجهود بين التوعية العامة وتطبيق القوانين. فالإجراءات الإدارية، كدور إدارة المرور، تلعب دورًا رئيسيًا في الحد من الحوادث عبر تشديد العقوبات على المخالفات، لكن النجاح المستدام يستدعي أيضًا غرس ثقافة مرورية لدى المواطنين.

ودعا الخصاونة إلى ضرورة أن تترافق العقوبات مع حملات توعية شاملة، تُبرز أهمية الالتزام بقواعد السير والتفاعل الإيجابي مع الآخرين على الطريق.

من جانبه، قال رئيس الجمعية الأردنية للوقاية من حوادث الطرق وفائي مسيس إن الحديث عن منظومة السير يتجاوز الأطر التقنية والإدارية ليأخذنا نحو تأمل فلسفي في دور المجتمع والدولة ومسؤوليات الأفراد في خلق بيئة آمنة، تتكامل فيها عناصر الهندسة، والتوعية، والتشريعات تحت مظلة من الوعي الجماعي والتزامٍ أخلاقي يتجاوز الالتزام بالقانون فقط.

وبيّن أن الهندسة المرورية، كأحد الأركان الرئيسة لهذه المنظومة، تعد تعبيرًا عن احترامنا للمجتمع، وأخذنا بيده إلى فضاء أوسع من الأمان والحركة المنظمة. فتخطيط الطرق بعناية، وتصميمها بحيث تكون آمنة يعبر عن التزام أخلاقي، يلتمس سلامة الأفراد ويؤمن لهم حرية التنقل دون خوف أو قلق. بالإضافة إلى أن تصميم الطرق بذلك يصبح مسؤولية اجتماعية مشتركة.

أما التوعية المرورية، ففي جوهرها، تشكل رؤية الإنسان لنفسه ولغيره على الطريق، وإدراكه بأن كل خطوة وكل قرار يؤثر على حياة الجميع، بينما ينظر لتشريعات وإنفاذ القانون على أنها وسيلة للموازنة بين حرية الفرد وحقوق الآخرين. فالردع القانوني دعوة للتأمل في أثر الفعل الفردي على المجتمع. وتغليظ العقوبات، كما جاء في قانون السير المعدل لعام 2023، يشكل خطوة تجاه تعزيز هذا الوعي، حيث إن العقوبة ليست نهاية بحد ذاتها، بل وسيلة لإعادة تشكيل سلوك السائق، ليعي أن سلوكه على الطريق هو امتدادٌ لمواقفه وأخلاقياته، وأن قراراته ليست فقط خاصة به، بل تمتد لتؤثر على سلامة الآخرين، وفقًا لمسيس.

وأوضح أن التشريع، والتوعية، والهندسة لا ينظر إليها على أنها وحدات منفصلة، بل تجليات مختلفة لمسؤولية مجتمعية واحدة. فلا يمكن للتشريعات أن تكون فعالة إذا لم تواكبها بنية تحتية آمنة وتوعية شاملة، ولا يمكن للتوعية أن تُحدث أثرها إذا لم تستند إلى تشريعات رادعة.

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير