الحرب والهوية

   عبدالهادي راجي المجالي

.. حين نقول غزة، فنحن نتحدث عن هوية فرعية فلسطينية.. وحين نقول بعلبك الهرمل في لبنان، أو نقول البقاع فنحن أيضا نتحدث عن هوية فرعية..

من هو الذي يقاتل إسرائيل الآن؟.. من يقاتلها هو الهويات الفرعية، التي أثبتت أنها مكمل للهوية الأم ولا تتناقض معها أبدا.. الشيعة في لبنان لهم هوية دينية واضحة وثابتة وهم جزء من النسيج الاجتماعي اللبناني، وموروثهم الثقافي عروبي بالكامل.. هم يشكلون هوية فرعية في المجتمع، ولكنهم لا يقاتلون باسم هويتهم.. بقدر ما يقاتلون باسم لبنان..

(الغزازوة) هوية تشكلت بفعل الجغرافيا، فالنسبة الأعظم من سكان غزة.. هم من الذين نزحوا من فلسطين التاريخية، واستقروا في المخيمات.. وهناك تشكلت لهم هوية فرعية (غزاوية) صنعتها الجغرافيا.. لكن هذه الهوية لا تقاتل دفاعا عن غزة بل عن فلسطين كاملة، عن الهوية الفلسطينية.. وعن الوطن الأم.

إن أخطر وأشرس أشكال الهوية هي التي تقوم على الدين، وعلى الجغرافيا.. هذه الهويات لم تهزم في التاريخ أبدا، بل ظلت صامدة وثابتة وراسخة..

ماذا فعلت إسرائيل؟.. هي رسخت الهويات الفرعية فنحن ندرك أن حزب الله في لبنان يقوم على القاعدة الشيعية، وخطابها الإعلامي اتجاه لبنان يتخذ هذا المنحى، لكنها لم تدرك للآن أنها بهذا الخطاب وحدت لبنان أكثر.. وهي أيضاً بحربها في غزة صدرت الهوية الفرعية (الغزاوية) للعالم باعتبارها هوية مقاتلة.. وتدافع عن الهوية الأم الفلسطينية.

هذا الحديث يقودنا إلى إعادة تعريف الهويات الفرعية، وقراءة أثرها.. هذا يعيدنا إلى (امين معلوف) في كتابه الهويات القاتلة، وللعلم أمين معلوف حدد تشكل الهوية بأربعة عناصر وهي: الدين، العرق، الجغرافيا، واللغة..

أضعف أشكال الهوية، أو ما يسمى بالهوية الهشة.. هو: اللغة.. وإسرائيل حاولت في البداية تشكيل هويتها على أساس أن من يتقن اللغة العبرية فهو (إسرائيلي).. وحين أيقنت أنها بلا هوية، نزعت إلى المنحى الديني.. فالدين هو أقوى روافع وعناصر الهوية، لهذا برز نتنياهو.. وبرزت الأحزاب الدينية وبرز اليمين المتطرف.. للأسف إسرائيل قرأت أمين معلوف والعرب لم يقوموا بقراءة سطر مما كتب في الهوية.

نحن في الأردن لم نفهم خطورة وقوة الهويات الفرعية..لم نقرأ تاريخ حابس المجالي، الذي تشكلت هويته في الكرك.. وعاش على قيم العشيرة والعروبة، ولكنه حين قاتل في فلسطين قاتل باسم الهوية الأم وهي الهوية الأردنية.. شخصية حابس المجالي تؤكد أن الهوية الفرعية لا تتناقض مع الهوية الأم بل على العكس.. هي معززة وباعثة لها..

في فلسطين..من يقاتل في غزة يمتلك عناصر الهوية الكاملة: لغة، دين، عرق، جغرافيا.. بالمقابل من يهاجم غزة، لا يمتلك من عناصر الهوية إلا اللغة.. وبعض المرتزقة لا يجيدون العبرية..

لا أقدم تنظيراً.. ولكن التاريخ علمنا أن كل الحروب التي قامت في هذه الدنيا كان سببها الهوية: حرب البوسنة والهرسك.. قامت على صراع الهويات الدينية، أقلية مسلمة في مجتمع أرثوذكسي.. التحالف الأميركي الأسترالي البريطاني الكندي.. هو تحالف (انجلوساكسوني) أساسه ديني.. رامسفيلد حين هاجم أوروبا في مطلع الألفية ووصفها: أوروبا القديمة.. كان يقصد أنها ما زالت في الإرث الكاثوليكي.

الأزمة الكردية التي ما زالت معلقة.. هي أزمة هوية، أرمينا وصراعها مع الأتراك هو صراع الهويات.. العرب وإيران صراعهم أساسه الهوية العرقية.. وفيما بعد تطور إلى المذهب.

إسرائيل هزمت القُطرية في العالم العربي، ولكنها لم تستطع للآن أن تهزم الهويات الفرعية.. هزمت أقطارا عربية بمقدرات هائلة، لكنها مأزومة أمام الهويات الفرعية في فلسطين وفي لبنان..

لهذا حين يقوم تحالف السلطة في إسرائيل على (بن غفير) و(سموترش) هو لايقوم على مسألة حزبية أو ديمقراطية، هو مجرد محاولة لإنتاج هوية دينية للدولة.. في محيط مشحون ومغرق بالهويات..

إسرائيل هزمت الدولة القُطرية في العالم العربي، لكن تدرك في ذاتها أنها الآن تخوض حرباً وجودية، وهي حرب الهوية.. والتاريخ علمنا أن من يمتلك هوية شرسة ثابتة قوية.. هو من ينتصر في حين أن مجتمعات (اللمم) وغياب الهوية مهما امتلكت من المادة وعناصر القوة حتما ستهزم في النهاية.