حماية الأمن الوطني والحياد الوظيفي: قراءة في نظام الموارد البشرية الأردني الجديد


الكاتب والمحلل الأمني د. بشير الدعجة

في هذه المقالة، سأحلل أحد بنود نظام الخدمة المدنية والموارد البشرية الجديد، وهو حظر مشاركة الموظف الحكومي في المسيرات والمظاهرات والاعتصامات.

ففي خطوة تهدف إلى تعزيز الأمن الوطني وضمان استقرار الجبهة الداخلية، أقرّت الحكومة الأردنية نظامًا جديدًا للموارد البشرية يمنع الموظفين العامين من المشاركة في المسيرات والمظاهرات والاعتصامات ذات الطابع السياسي والأمني وأي طابع آخر.

هذا القرار، رغم أهميته في الحفاظ على الأمن والاستقرار، يثير تساؤلات حول تأثيره على حقوق الموظفين في التعبير عن مطالبهم المهنية. في هذا التحليل، سأتناول بالتفصيل الفرق بين المسيرات الوطنية والمهنية والمظاهرات السياسية، والمخاطر الأمنية والاجتماعية التي يسعى النظام الجديد إلى معالجتها، والآثار السلبية المحتملة على الموظفين والدولة.

أولًا: الفرق بين المسيرات المهنية والسياسية والوطنية

▪ المسيرات المهنية:
المسيرات والاعتصامات ذات الطابع المهني هي تلك التي ينظمها الموظفون للمطالبة بحقوقهم المهنية وتحسين ظروف العمل. تشمل هذه المطالب زيادات في الرواتب، تحسين بيئة العمل، توفير فرص التدريب والتطوير المهني، وضمان العدالة والمساواة في المعاملة. هذه الأنشطة تعتبر مشروعة ومهمة لتحسين أوضاع الموظفين وتعزيز كفاءتهم وإنتاجيتهم. ولا بد للحكومة السماح للموظف بالتعبير عن آرائه المهنية عبر المسيرات والاعتصامات المهنية والاستماع إليه وحل مشكلاته المهنية، شريطة التزام الموظفين بالمطالب المهنية دون ترديد شعارات غير مهنية كالشعارات السياسية والسلوكيات السلبية التي ترافق عادة المسيرات.

▪ المظاهرات السياسية والأمنية:
على الجانب الآخر، المظاهرات والاعتصامات ذات الطابع السياسي والأمني تكون موجهة ضد سياسات الحكومة أو تتعلق بقضايا سياسية وأمنية تؤثر على الدولة بشكل عام. هذه الأنشطة قد تتسبب في توترات وصراعات داخلية، وتعرض الأمن الوطني للخطر، كما يمكن أن تستغلها جهات ذات أجندات خاصة أو خارجية لإثارة الفوضى والبلبلة. نحن نعلم جميعًا أن الأردن مستهدف أمنيًا من قبل دول إقليمية وميليشيات وحركات عسكرية وعناصر مسلحة وخلايا إرهابية نائمة. وما القضايا التي تم ضبطها مؤخرًا من قبل أجهزتنا الأمنية إلا خير شاهد على ذلك.

▪ المسيرات الوطنية:
الأردن، كغيره من البلدان، يتمتع بتاريخ طويل من المسيرات والتظاهرات التي تُعبّر عن مشاعر الحب والولاء للوطن. سواء كان ذلك في المناسبات الوطنية أو في الأوقات التي تتطلب التعبير عن الوحدة والتضامن، كانت المسيرات دائمًا وسيلة للتعبير عن الروح الوطنية والتلاحم الاجتماعي.
يمكن تفهم الأسباب التي دفعت إلى وضع هذا الحظر من زاوية الحفاظ على النظام العام ومنع التسييس داخل المؤسسات الحكومية. ومع ذلك، فإن هذا الحظر الجديد يُثير تساؤلات حيث تبرز عدة أسئلة: ماذا عن المسيرات التي تدعم الوطن وتُعبر عن الروح الوطنية؟ كيف يمكن التوفيق بين واجب الموظف العام في الالتزام بالقوانين واللوائح من جهة، وحقه في التعبير عن مشاعره الوطنية من جهة أخرى؟ هل يجب أن يُمنع الموظف العام من المشاركة في مسيرة تُعبر عن دعمه للوطن في وقت يتطلب التضامن والوقوف معًا؟

ثانيًا: المخاطر والمساوئ التي يعالجها النظام الجديد

▪ حماية الأمن الوطني:
المشاركة في المظاهرات ذات الطابع السياسي والأمني قد تفتح الباب أمام تدخلات خارجية ومحاولات لزعزعة استقرار الدولة. النظام الجديد يهدف إلى تقليل هذه المخاطر من خلال منع الموظفين العامين من التورط في أنشطة قد تؤثر سلبًا على الأمن الوطني وتؤدي إلى الفوضى وعدم الاستقرار. الابتعاد عن الاحتجاجات ذات الطابع السياسي والأمني يقلل من احتمالية تعرض الموظفين لخطر التورط في مواجهات أو أعمال عنف قد تصاحب مثل هذه الاحتجاجات. بالتالي، يتم حماية سلامتهم الشخصية وضمان استمرار عملهم دون انقطاع أو مخاطر أمنية.

▪ الحفاظ على حياد الموظف العام:
الموظف العام يجب أن يكون محايدًا وغير متحيز في أداء واجباته. المشاركة في الأنشطة السياسية قد تضعه في مواقف تتعارض مع حياديته المهنية وتؤثر على قدرته على أداء مهامه بفعالية. النظام الجديد يسعى إلى حماية حياد الموظف العام وضمان التزامه بمهامه دون انحيازات سياسية. منع الموظفين العامين من المشاركة في المسيرات والمظاهرات يسهم في الحفاظ على الاستقرار الوطني. فالموظفون العامون يمثلون واجهة الدولة، وأي تورط لهم في أنشطة احتجاجية يمكن أن يعكس صورة سلبية عن الحكومة وقدرتها على إدارة شؤون البلاد بفعالية.

▪ منع استغلال الموظفين لأجندات خارجية:
المظاهرات ذات الطابع السياسي والأمني قد تستغلها جهات خارجية أو داخلية ذات أجندات خاصة لزعزعة استقرار الدولة. منع الموظفين العامين من المشاركة في هذه الأنشطة يحد من إمكانية استغلالهم لأغراض لا تخدم مصلحة الوطن. شاهدنا كيف أن بعض أصحاب الأجندات الخاصة يستغلون أية مظاهرة أو مسيرة أو اعتصام ويركبون الموجة ويحرفون بوصلة المسيرة من مطالب شرعية إلى وقفات احتجاجية ضد الدولة والحكومة. ولا يتوقف الأمر عند هذا، بل يمتد إلى ارتكاب أعمال الشغب والضرب والتكسير والاعتداء على رجال الأمن ومركباتهم والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة بهدف خلق البلبلة وزعزعة الأمن والاستقرار الداخلي لتحقيق مآربهم وأهدافهم وتنفيذ أوامر وتعليمات جهات خارجية.

ثالثًا: الآثار السلبية المحتملة للنظام الجديد

▪ تقييد حرية التعبير:
يعتبر منع الموظفين من المشاركة في المظاهرات تقييدًا لحرية التعبير، وهو حق أساسي من حقوق الإنسان كفله الدستور الأردني. الموظفون قد يشعرون بالقمع والإحباط نتيجة لعدم قدرتهم على التعبير عن آرائهم والمطالبة بحقوقهم عبر الاحتجاجات السلمية.

▪ زيادة الاحتقان الاجتماعي:
عدم السماح للموظفين بالتعبير عن مطالبهم السياسية قد يؤدي إلى تراكم الغضب والإحباط، مما يزيد من حدة الاحتقان الاجتماعي. هذا الاحتقان قد ينفجر في وقت لاحق بطرق غير متوقعة وبأساليب قد تكون أكثر خطورة.

▪ تأثيرات سلبية على الروح المعنوية:
الشعور بالقمع وعدم القدرة على المشاركة في الأنشطة الاحتجاجية يمكن أن يؤثر سلبًا على الروح المعنوية للموظفين، مما ينعكس على أدائهم الوظيفي وإنتاجيتهم. فقد يشعرون بأنهم مجرد أدوات في آلة حكومية بلا صوت ولا تأثير.

رابعًا: البحث عن التوازن بين الأمن وحقوق الموظفين

▪ القنوات البديلة للتعبير:
يمكن للحكومة توفير قنوات بديلة تتيح للموظفين التعبير عن آرائهم ومطالبهم، مثل إنشاء منصات حوارية داخلية، وتقديم جلسات استماع دورية للقضايا التي تهم الموظفين. هذه القنوات يمكن أن تكون بديلاً فعالاً للاحتجاجات وتساعد في تخفيف حدة الاحتقان.

▪ تعزيز الشفافية والحوار:
من خلال تعزيز الشفافية في اتخاذ القرارات وتقديم تبريرات واضحة للقرارات المتخذة، يمكن للحكومة بناء جسور الثقة مع الموظفين وتقليل مشاعر الإحباط والاحتقان. الحوار المستمر بين الإدارة والموظفين يمكن أن يسهم في حل الكثير من المشاكل قبل أن تتفاقم.

▪ التدريب على وسائل التعبير الآمنة:
يمكن للحكومة تنظيم ورش عمل ودورات تدريبية لتعريف الموظفين بوسائل التعبير الآمنة والفعالة عن آرائهم دون اللجوء إلى الاحتجاجات. هذا قد يشمل استخدام وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بالحكومة بشكل بناء وآمن، وتشجيع الموظفين على المشاركة في النقابات العمالية والجمعيات المهنية.

▪ التوازن بين الالتزام والحرية:
أحد التحديات الرئيسية التي تواجه النظام الجديد هو كيفية إيجاد توازن بين الالتزام بالواجبات المهنية والتمسك بالقيم الوطنية. فمن ناحية، يُفترض بالموظف العام أن يكون نموذجاً للنزاهة والحيادية، مما يقتضي الابتعاد عن أي نشاط يمكن أن يُفسر بأنه تحيز سياسي أو انحياز لطرف دون آخر. ومن ناحية أخرى، فإن الموظف العام هو في النهاية مواطن له حقوقه في التعبير عن مشاعره ودعمه للوطن، خاصة في الأوقات التي تتطلب ذلك.

من هنا، يبرز النقاش حول ضرورة وجود استثناءات في هذا الحظر للسماح بالمشاركة في المسيرات التي تُعبر عن الوطنية والوحدة. على سبيل المثال، قد يكون من المناسب السماح للموظفين بالمشاركة في مسيرات يوم الاستقلال أو في الفعاليات التي تُنظم لدعم الجيش والأجهزة الأمنية أو القيادة الهاشمية.

▪ الحاجة إلى توضيح اللوائح:
لضمان تطبيق نظام الموارد البشرية الجديد بشكل عادل ومنصف، قد يكون من الضروري توضيح اللوائح المتعلقة بالمشاركة في المسيرات والاعتصامات... يمكن أن تتضمن هذه اللوائح تحديداً واضحاً لأنواع المسيرات المسموح بها وأوقات المشاركة، بالإضافة إلى آليات للموافقة المسبقة على المشاركة في المسيرات الوطنية.
من المهم أن يتم التواصل بوضوح مع الموظفين العامين حول هذه القواعد وأن يُتاح لهم فرصة التعبير عن آرائهم واقتراحاتهم... الشفافية في تطبيق هذه اللوائح ستُسهم في تقبلها بشكل أكبر من قِبل الموظفين وستُقلل من الشعور بالإحباط أو التقييد.

ختاما، النظام الجديد للموارد البشرية في الأردن يمثل خطوة هامة نحو تعزيز الأمن الوطني وحماية استقرار الجبهة الداخلية وقطع الطريق لكل من تسول له نفسه استغلال الموظفين الحكوميين لتحقيق اجندتهم الخاصة مستغلين احتجاجاتهم السلمية ... ومع ذلك، يجب أن يتم تنفيذه بحذر وتوازن لضمان عدم انتهاك حقوق الموظفين في التعبير عن آرائهم ومطالبهم المهنية ... من خلال توفير قنوات بديلة للتعبير وتعزيز الشفافية والحوار، يمكن تحقيق التوازن بين متطلبات الأمن وحقوق الأفراد، مما يسهم في بناء مجتمع أكثر استقرارًا وعدالة... إن النجاح في تحقيق هذا التوازن يتطلب تعاونًا وثيقًا بين الحكومة والموظفين لضمان بيئة عمل آمنة ومنتجة تلبي تطلعات الجميع... وللحديث بقية..