المسافة صفر وقمة العقبة
في الداخل الفلسطيني أنتجت سنوات الانقسام وغياب الوئام بين الفصائل الفلسطينية المختلفة وما رافقها من قمع الاحتلال إحساساً عميقاً بالخيبة وغياب الأمل، وهذا حفز على ميلاد الشخصية المفردة المتعبة من المعاناة والراغبة في التحرر من الاحتلال ومن كل أشكال الصراعات الفصائلية، لذلك بدأت مشروعها النضالي المبني على التضحية بالذات، أما من جهة المحتل الإسرائيلي فالواقع يؤكد حقيقة رئيسية مفادها أن التشدد والعنصرية هما الأساس الذي قامت عليه هذه الدولة والدليل على ذلك هو الصراع الناشب بين التيارين الرئيسيين هناك، الأول يريد الاستمرار في لعبة المداراة والتلفيق بين العلمانية والليبرالية والاحتلال، والثاني يريد أن يميط اللثام عن هذه الخدعة التاريخية ويتصرف كما هو واقع الحال بدون مواربة.
بنتيجة هذا الواقع بدأ تيار التحرر الفلسطيني الفرداني بالظهور إلى أرض الواقع وعبر عن نفسه بمواجهات فردية مسلحة وذكية مع جنود الاحتلال أدت إلى نتائج فورية زلزلت فكرة الاستقرار على أساس القوة والذي تبنته إسرائيل خلال الفترة الماضية، ومن جهة الاحتلال لا يمكن إغفال نتائج الانتخاب التي بدأت تفضي إلى ميول يمينية شوفينية متطرفة في المجتمع اليهودي، وهؤلاء يعلنون صباح مساء بأنه لا حل إلا بإقصاء الفلسطينيين أو إبادتهم، وبسبب التداخل الديمغرافي بين الطرفين فإن المواجهة اصبحت حتمية، وما يخيف الإسرائيليين هو مستوى الحرفية لدى الشباب الفلسطيني ونوعية الأسلحة التي يمتلكونها والتي حصلوا على أغلبها من مخازن جيش الاحتلال بسبب تزايد معدلات الفساد داخل هذا الجيش، وبعضها مصنع داخل مشاغل في الضفة الغربية، علماً بأن دولة الاحتلال حاولت أن تغرق الضفة الغربية بالسلاح على أمل أن تنشب حرب أهلية بين الفلسطينيين لكن ها هو السحر ينقلب على الساحر.
في ظل هذا الواقع الدامي على المستوى الفلسطيني الإسرائيلي والمتفجر في الداخل الإسرائيلي بين العلمانيين والمتطرفين، بدأت الولايات المتحدة مسعاها لإنقاذ إسرائيل من نفسها بسبب خشيتها من أن تدخل في مواجهة واستنزاف طويل الأمد، لذلك بدأت بالضغط على الأطراف للانخراط في نقاش مشترك للخلاص من هذا المأزق، ولأنها لا تمتلك القدرة على طرح مبادرة سياسية فقد لجأت إلى استغلال المخاوف الأمنية لكل الأطراف وبهذه الحجة أجلست الجميع على طاولة العقبة، وهي بهذه الطريقة قزمت الصراع الدامي وكذلك دورها إلى مستوى اتفاقات أمنية محددة والتي لم يكد حبرها يجف حتى نشبت أحداث حوارة، وتصريحات سموتريتش بضرورة إبادتها نهائياً تؤكد للمجتمعين وللعالم تراجع مكانة الولايات المتحدة ودورها في المنطقة وتؤكد أيضاً أن هذا اليمين لا يمكن إيقافه وقمعه إلا بمقاومته، ولهذا فإن اتفاق العقبة لم ولن يغير من الأمر شيئا، لأن الانحدار بالصراع إلى هذا المستوى يُحمل الجانب الفلسطيني العبء الأكبر ويجعله في مواجهة مع نفسه وهذه جريمة أخرى بحق هذا الشعب، بينما يخرج نتنياهو منتصراً بحصوله على اعتراف مجاني إقليمي ودولي بحكومته المتطرفة.
ولأن الولايات المتحدة وإسرائيل تدركان خطورة وقوة المناضل الفلسطيني الفرد، فهو حينما يمتلك السلاح الفتاك بالإضافة إلى الإرادة والذكاء ومخزون من القهر والقدرة على الالتحام من المسافة صفر مع الجندي الإسرائيلي فإنه يشكل خطراً وجودياً على دولة الاحتلال، وهذا ما دفع الولايات المتحدة للمسارعة في تطويق هذا الخطر قبل وقوعه، لذلك فإن مبادرة الفلسطيني في اختراع هذا النوع من النضال المتحرر من القيود الفصائلية هو إدراك عميق بأن هذا هو الطريق الوحيد في هذه المرحلة التي أصبحت فيها أغلب المنظمات الفلسطينية مقيدة باتفاقيات متعددة، لذلك فإن المرحلة القادمة ستكون دامية بكل معنى الكلمة بسبب غطرسة المحتل الإسرائيلي وتنصل الولايات المتحدة، مما حشر الفلسطيني في زاوية ضيقة جعل خيار التضحية بالذات أحد أهم الخيارات بالذات بعد أن توصل الجميع إلى قناعة راسخة بأن إسرائيل لن تقدم أي تنازل طالما أنها بموقع القوة ولم تتعرض لخسارة حقيقية على أرض الواقع.