يد مارادونا وقدم ميسي
جرب أن تذكر عقد الثمانينيات بعد أن تسقط من لسانك الأرجنتين وفتاها مارادونا. ستكون الذكرى بمبتدأ من دون خبر، ومن فعل نقَصَ فاعله ومفعوله. ستكون الصورة خالية من اللونين الأزرق والأبيض. تخيّل خلوّ الحياة من هذين اللونين، لن تتخيّل شيئاً. احذف “دييغو” من سيرة أيّ معاصر للثمانينيات، ستحذف معه التمرّد، والحرفنة، والشغب، وأشياء من السينما. احذف الرقم عشرة من ذاكرة أطفال الثمانينيات، ستحذف كل أحلامهم في اليقظة. جرّب مرة أخرى أن تسقط الأرجنتين وفتاها، حتى لسانك سيميل نحو فراغ عظيم.
بيد الله هزم مارادونا الاستعمار. أضفنا إلى أسطورته خرافات عن القصير المحتال. خمس دقائق فقط في ملعب الإنجليز، صارت تاريخاً ستظلُّ تعبر من زمن إلى زمن طالما هناك صورة: سجّل هدفاً مثل لص أو فدائي، تبعه بآخر أكد فيه أنه إنسان من فصيلة الخُرافة. ستبقى حياة مارادونا في تناقضات الخمس دقائق، يزور “إسرائيل” ثمّ يلعنها، ويصبح أشدّ أعدائها. يصادق المافيا الإيطالية، ويترك يده اليُمنى للسلام على فيدل كاسترو. “سيئ الخلق” في الإعلام الغربي والمدمن وغير المعترف بابنه، مقابل الثائر المعادي لأميركا وحصارها ثمّ غزوها للعراق.. إنه دييغو، إنه “الشاعر”.
انتهت حياة مارادونا الكروية في أميركا. هناك غدر به “الفيفا”، فخرج من مونديال العام 1994 مطروداً. ستضاف هذه الذكرى إلى أسباب كراهيته لأميركا. يرفض جواز السفر الأميركي ويختار عدوّها كاسترو أباً صارماً ليخلصه من الكوكايين. يتحدى أميركا أن تجري مباراة بكرة القدم بين منتخبها ومنتخب العراق بقيادته على بطولة “فكّ الحصار”. بذارعه الموشومة بوجه الثائر جيفارا، أشار إلى جورج بوش بأنه سفاح وقاتل، أما ترامب فوصفه بالكائن الكرتوني القادم من الرسوم المتحرّكة. وعندما يُسأل دييغو عن أسباب تغير مواقفه، وجنوحه المتهور نحو اليسار، يردُّ بجنونه: كنتُ محاطاً بالأغبياء!
من دون مارادونا، كانت الأرجنتين تخرج من كلّ بطولة ذليلة ولا كأنها بلاد الشمس في مايو، حتى عندما جاء عصر ليونيل ميسي، كان أكثر ما فعله هو المرور المُهين من أمام الكأس في بطولة البرازيل. ظلّ كأس العالم لنا، نحن أمة الأرجنتين، أكثر وهماً من جبال الفضة في بوينس آيرس. كان ميسي باسمه الإيطاليّ، يكسر الأرقام القياسية في مقاطعة كتالونيا، ويصفّ الكرات الذهبية أمامه لالتقاط الصور المستفزة لنا، نحن أمة الأرجنتين. نمت إمبراطوريات كروية في ثماني دورات عالمية، وفي كلّ دورة كان يُسمع بكاء مارادونا، من الأرض أو من السماء.
“سجّلْ هدفاً ولو بيدك يا ليو”، هكذا كتبتُ قبل افتتاح مونديال الدوحة. كنتُ واثقاً من النصر هذه المرة، ودعوت دييغو لأن يتأخر في النوم تلك الليلة. سمعتُ صيحات النصر بالإسبانية في قرطبة الأرجنتينية، شاهدتُ مارادونا يرقص رقصه الغريب، ويده تجاهد لتثبيت السيجار في فمه. أنا ابن الثمانينيات.. إن حذفتُ من وعيي هزيمة المستعمر بيد دييغو، سأصيرُ خيالاً، إن فقدتُ الأمل بأن ليو ورفاقه سيهزمون القطب الآخر من الاستعمار، سيذهب خيالي. نعم كنتُ واثقاً، وشاهدتُ خيبة “ماكرون” قبل المباراة، وكنتُ شامتاً بالديك، فأنا كاره قديم للديكة مثل كل الساكنين داخل أسوار العالم الثالث.