قهر النظام الدولي
د. منذر الحوارات
في مراسم تعبر عن الأبهة والوقار وبحضور شخصيات رسمية بدت وكأنها امتهنت التصفيق والتأييد، انطلق الرئيس فلاديمير بوتين في خطابه الغاضب حدّ الثورية على الغرب بماضيه وحاضره وأعلن نفسه مناهضاً له قبيل لحظة من إعلان ضم أربع مناطق أوكرانية إلى نطاق السيادة الروسية، مبشراً الحضور بأنها عادت الى حضن الوطن، ورغم أن الاحتفالية كانت لضم الأقاليم الأربعة إلا أن بوتين قرر أن يكون الجزء الأكبر من خطابه عبارة محاكمة للحضارة الغربية وسلوكها تجاه العالم وروسيا وشن هجوماً على قواعد النظام العالمي، والذي اعتبر أنه صنيعة الغرب وكأنه يقول إن الوقت قد حان لنسف هذا النظام لمصلحة نظام جديد أكثر عدلاً ينطلق من أوكرانيا ويمتد عبر العالم، لكن ما الذي دفع بوتين لهذا الخطاب المشحون بالتاريخ والثورية والقومية في آن معاً؟
لا شك أن الرئيس بوتين من مدرسة التفكير الجيوسياسي وهذه تعطي القوة وموازينها القدرة على فرض الإرادة السياسية بالقسر والارغام والتهديد والمكانة الرئيسية ولأن هذه القناعة البوتينية كانت مقيدة في نظام القوة والقدرة الأميركية لم يكن يستطيع أن يجهر بها أو يطبقها لكنه بدأها عندما أدرك الحاجة الأميركية اليه في مواجهة الصعود الصيني فبدأ بجورجيا وتلتها جزيرة القرم 2014 ومع اقتصار الرد الغربي على بعض العقوبات التي لم تؤثر على بنية نظامه السياسي ازداد جسارةً وجرأة، أما بعد جائحة كورونا والتي أضعفت الجميع ومن ضمنهم الولايات المتحدة الأميركية التي بدا عليها الكثير من الترهل الإمبراطوري والضعف وبدأت ارهاصات انتهاء مرحلة القطب الواحد ودخل العالم في مرحلة انتقالية تمهيداً لظهور نظام دولي جديد، هذه الحالة هي من أغرت الرئيس بوتين للإقدام على خطوته بغزو أوكرانيا إذ لا يمكن أن تلوح فرصة شبيهة بها خلال عقود وسارع إلى ترجمة ميزان القوة إلى واقع على الأرض فقام بالغزو وسار حتى كييف لكن مواجهة الأوكرانيين وثباتهم والدعم الغربي أدى إلى تراجع القوات الروسية التقليدية وفشلها في تحقيق ما تريد.
في مواجهة هذا الواقع قام بوتين بإعلان التعبئة العامة لكنه فوجئ بهروب جماعي للشباب الروس رفضاً للتجنيد وكانت تلك حقيقة صادمة لبوتين والسياسيين الروس أضيف اليها فشله في ارغام أوروبا على الرضوخ بعد أن قطع عنها إمدادات الغاز ولم يبق في جعبته سوى خيارين اثنين الأول أدلجة الصراع وتوسيع مداه فكان الغرب وشذوذه هو ضالته والثاني هو نقل الصراع إلى مستوى أعلى من المواجهة بعد فشل القوة التقليدية وذلك لن يتم إلا إذا قام بضم الأجزاء التي يسيطر عليها حتى يتمكن من القول أن المقاومة الأوكرانية ما هي إلا عملية اعتداء على الأراضي الروسية وهذا المنطق يمكنه من وضع ترسانته النووية في مواجهة العدو والذي لا يقتصر على أوكرانيا بل الغرب الذي يريد القضاء على وحدة واستقلال روسيا وهو هنا يستخدم أخطر أنواع القوة لتحقيق مكاسب جيوسياسية في مواجهة النظام الدولي الذي نص على احترام سيادة الدول وحدودها.
وفي حال نجاح هذه الخطوة ومبرراتها فإن روسيا ستطبقها على دول أخرى فيها قومية روسية ولديها تاريخ مشترك مع روسيا بل لن يقتصر الأمر على روسيا فهناك نزاعات قومية وعرقية بين دول عديدة على مستوى العالم ستقول حينها أنه طالما نجحت روسيا في ذلك فلماذا لا نحاول نحن ويتحول العالم إلى غابة يأكل قويها ضعيفها طبعاً هنا انا لا أُبريء الغرب والولايات المتحدة من ظلم الشعوب واحتقار قيمها وازدواجية معاييره في أكثر من مكان ابتداء من فلسطين مرورا بالعراق وليبيا وسورية وحقبة الاستعمار وظلمها لكن لا يعني ابداً أن ارتكاب جرائم متعددة من قبل أمة يجيز لأمة أخرى أن ترتكب نفس الأخطاء بحجة أنها تريد أن تقف في مواجهة تلك الأمة، صحيح أن النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية انتهك في مرحلة الحرب الباردة وبعدها في نظام القطب الواحد لكنه ابداً لم يتنازل عن فكرة سيادة الدول على حدودها إلا في مكان واحد وهو فلسطين وتلك قصة أخرى لذلك إن نجاح بوتين في قهر النظام الدولي ينذر بعواقب وخيمة على الدول الفقيرة والضعيفة وللأسف نحن منها.