عبد الرؤوف الروابدة والنقد من زوايا الخبرة

 

د. مهند مبيضين

في سيرة د. عبد الرؤوف الروابدة (1939) الكثير من المحطات الغنية، والتجارب، والمواقف التي يحفظها عنه الناس ويدافع هو عنها، تلك أمور عادية في رجل دولة أضحى وزيراً في منتصف السبعينات من القرن العشرين، واستمر عاملاً في الجهاز المؤسسي للدولة الأردنية طيلة خمسة عقود من الزمن، لكنها في حالته فريدة، وظاهرة وسبب الفرادة، القدرة على البقاء في التمثيل والحضور السياسي سواء ممثلا لمنطقته أو مندتبا عنها او ممثلا للدولة في وظيفة عليا، كل هذا حدث بعد مرحلة حاسمة في تاريخ الدولة أي بعد العام 1970 وما تلاه من احداث مفصلية، وما أرادته الدولة من بناء نخبة حاكمة وإعداد قيادات خالصة الولاء للعرش والدولة والأرض .

استبق الروابدة إصدار سيرته الذاتية التي يعكف عليها الآن، بإصدار كتاب هكذا أفكر ( دار ورد عمان 2021) وهو خلاصة خبرته التي اتّضح له عبر تجربته المديدة في العمل العام والسياسة، أنّ أمامه بابين للمشاركة الوطنية، الأول: هو العمل العام (وزير وأمين عمان ورئيس حكومة، ورئيس أعيان) والثاني: التمثيل السياسي كحزبي بدأ بالانتساب لحركة الإخوان المسلمين وهو في الجامعة الأمريكية مطلع الستينات ثم عضوا في المجلس الوطني الاستشاري ثم كنائب ورجل سياسه ورأي. وكان بوسعه ان يرتاح باكراً ويؤسس كصيدلاني مستودعاً للأدوية او شركة تتولى صناعات الدواء، لكنه لو ذهب لذلك لما كان مشتبكاً مع السياسة كما هو اليوم وكما كان بالأمس.

ما يهمنا في هذا المقام ليس الحديث عن السجايا والأدوار والخبرة الطويلة، ولا عن سياسي أردني منحدر من بيت فلاحي بسيط، فقد وضع الروابدة أما القارئ كتابًا يضم خلاصة افكار تغيّرت وتطورت وربما هي قابلة لتتطور أو خاضعة للمراجعة، وفيها من الحديث عن الوطن النشأة والتاريخ والجغرافيا، إلى السياسات العامة والانتماء للدولة والإصلاح الأردني والتعليم الذي نريد والاعلام والتنمية والخدمات الصحية والعلاقة الأردنية الفلسطينية وقرار فك الارتباط والديمقراطية الأردنية، والهوية الوطنية، والإدارة المحلية، ومن ثم هناك خطابات وكلمات في مناسبات وطنية وبرلمانية يضعها الروابدة امام قارئه كخلاصات عبر محطات متممة لمسيرته.

أيقن الروابدة والحالة هذه (كثافة في العناوين وتعدد في الآراء التي يجب ان يطرحها)، أن طبعه سيحكمه، فهو شخصية لا تحب اللوذ بالصمت في المسائل الوطنية، فوجد أن هوامش المشاركة في الحياة السياسية الاردنية محدودة وأن النخبة السياسية مغلقة، لم تتولد من رحم حركات اجتماعية او تحولات سياسية او من خلال تجربة حزبية ناجزة. فانصبت مجمل أفكاره في كتابه على الأردن الدولة وما فيه من خدمات وانجازات ومالات بعضها كانت قاسية وبعضها فرضتها الجغرافيا وعقدتها.

لقد ساجل الروابدة بدأب شديد منذ خمسة عقود في العمل العام، للبحث لنفسه عن مكان فارق له بين وظيفة رجل الدولة، وبين المسؤولية التي تجعله كثيراً ما يقدم الرأي دون مواربة وخوف، مع ما يحمله ذلك من خسارات احياناً وخصومات نتيجة ما يمكن أن يقال عنها جرأة وتحمل للمسؤولية.

لكنه، مدعوماً بمكانته بين البيروقراطية الأردنية، والطبقة الوسطى، وابناء الريف، من الأردنيين، وبخاصة في حقبة التحول الاقتصادي الضاري الأوجاع، المشحون بمسألة الخصخصة وتفريخ الهيئات المستقلة والمناطق الخاصة، وما استلزم ذلك من قذف لنخبة متشكلة حديثا لسد فراغ الأمكنة فيها، كانت الدعوة من عنده لعقلنة الخطاب الوطني في المسائل الوطنية، والعقلانية والحرص على علاقة فلسطينية اردنية واضحة، كانت تستوجب بشكل حتمي دعوته الصريحة المتكررة لإصلاح الإدارة العامة التي لا يخجل اليوم من نقد اوجاعها ويدعو لإصلاحها.

ذلك ما نجده في رأيه في اللامركزية والإدارة المحلية في الأردن (ص304) أو في سرده للتحديات التي تعاني منها الدولة ومنها التحدي الإداري حيث يقول «جرى التجرؤ على الهيكل التنظيمي للدولة ولكل وزارة ودائرة وجرى التغيير مع كل وزير او قائد ادارة جديدة الامر الذي أدى إلى ان يفقد المواطن والموظف البوصلة لتعدد الهياكل» وجرى اقتراح سلالم جديده للرواتب بدعوى مكافأة الخبرات....وتميز التطوير الإداري بالنمو البرعمي بخلق دوائر ومؤسسات تفُصل على المقاس لمهمة او شخص او لحل مشكلة تفاقمت (ص115)، ولا يقل نقده للإدارة العامة عن نقده للسياسات التربوية وتحدي التطرف والسياسية التنفيذية، وقبلها تحديات الجغرافيا والقضية الفلسطينية والتاريخ.

بالمعنى التغيري، يرى الروابدة ان تركيب الدولة الأردنية خلال العقود الأخيرة اختلّ، وأن المجتمع تعقد، ولربما هو رأي يؤيده فيه تيار عريض من ابناء الاردن، لكنه لم يقد الرأي بصورة شعوبية، وهذا لا يُلغي إمكانية أي طرح بديل للدولة، التي جرى الخلط فيها بين الطبيعة الطبقية للدولة «كأداة في يد البرجوازية، والنخب المُهيمنة الوافدة من الغرب، والتحول من التعليم للجميع إلى التعليم للمقتدرين. وبين السؤال عن ضرورة الإدارة المركزية لاحراز تنظيم سياسي اجتماعي مرن ويواجه التحديات، وبين مواقف رافضة لأي تغيير وإصلاح. وفي تلك المواقف رؤية بأن أي تغيير أو اصلاح يستهدف الهوية الوطنية والركن العشائري فيها، وهو رأي لا مكان له علميا في دراسات تحول المجتمعات.

وكلما زاد هذا الانقسام بما فيه من تعقيد وتمايز في الحياة السياسية والاقتصادية ساهمت الكتل السكانية في تسريع دور الوسطاء والوكلاء منها أمام الدولة بصيغة وجهاء محدثين او متولي الثراء وعجلة السوق.

لذلك، يهتم الروابدة بمسألة تعاظم دور الدولة في ظل زيادة سكانية هائلة الأثر على كل الخدمات، وللأسف لم تؤول عملية الاقتراع النيابي الى تخفيف العبء عنها. بل زادت الطلب على الدولة ولا سيما في مجالات الصحة والتعليم والنقل وهو ما يحتاج إدارات فاعلة ومتخصصة، بمعنى أن التحول الديمقراطي لم يأت بشريك للحكومات او يرفع مستوى حضور السلطة البرلمانية لكي تثري عمل السلطة التنفيذية وتصحح اخطاءها.

كلّ هذا انفجر في زمن الربيع العربي بصيغ مطلبية هوايتيه، نتيجة لمواجهة الاستحقاقات والغضب وتنامي فجوة الثقة التي فجرت الربيع العربي، والتي يرى الروابده أن لا حلّ إلّا بالتنبيه للدولة والعقل العميق فيها، بأن أساليب الحسم التقليدية من قبل الحكومات للتحديات السابقة، لم تعد ممكنة وثمنها باهظ والحل لا يكون الا بديمقراطية حقيقية لا يتفرد بها طرف ولا يستقوي بها اتجاه، وهى الوسيلة للوصول لبر الأمان (ص87).

أمّا التربية والتعليم، فهو يراهما انتقلا من تربية النخبة وتعليمها الى تعليم الجميع، ومن التربية كعملية متخصصة يشرف عليها اكفاء وتربويون مختصون، إلى سوق وبازار وانتقل التعليم من مجرد معلومات الى تحليلها ومحاولة انتاجها، وانتقل الطلبة من وقع المتلقي الى وقع المشارك الإيجابي وانتقل المعلمون من دور الآمر الناهي الى دور المساعد والمسهل (ص155)، وهذا رأى يحتاج لتدبر ومراجعة كونه لا يمكن الإقرار به في الواقع المؤلم اليوم الذي يجتاح عملية التعليم وإنتاج المعرفة في الأردن.

أما هوية الأردن عنده فهي عروبية، والواجب يستدعي تعزيزها وهي «ليست هوية اقصائية بل هوية جمعية وليست وقفاً على اصل أو منبت او جنس، بل هي هوية لكل من يقول أنا اردني» (ص55). وللدولة عناصر قوة متمثلة بإن الرسالة وارث النهضة العربية والديمقراطية والوسطية والاعتدال والتسامح ولأمن الوحدة الوطنية والانجاز والمؤسسة العسكرية والأمنية. (ص26-36)

وفي العلاقة الأردنية الفلسطينية عنده، استعرض وبيان جليّ، إذ يرى أن هيكلها التنظيمي انتهى بقرار فك الارتباط القانوني والإداري عام 1988 الذى يرى انه «وجدَ القبول والارتياح من جميع الفعاليات الفلسطينية والحركة الوطنية الأردنية. (ص37)

وإذ تخلو الأفكار المدونة في سردية الروابدة من لغة سياسية خالية من البلاغات، ومن خطاب التحصن بالدولة، إلى نقد مسارها العام، فإن الرجل على الأقل يحسب له ثباته في المشاركة بالرأي وعدم الاختباء وراء مرجعيات عليا في القرارات التي اتخذها، مع أنه لا يلقى الترحيب من البعض باعتباره من الطبقة العليا من المحافظين الأردنيين.

هذه الشخصية التي التقت بقسطنطين زريق في الجامعة الأمريكية، وحصل فيها على المعدلات في تاريخها، كامنة وراء حاسبات الوطن الراهنة، والتي تتجه فيها الدولة إلى حالة تحديث سياسي لم يخف الروابدة نقده لمخرجاتها، ولم يكتف بذلك بل ساجل ودافع عن رأيه بها بكل مرونة وثبات، بالرغم من أنه موقن بأن حسابات المرحلة مختلفة جداً عما يفكر به، وفي المجمل تعكس آراؤه مجمل سيرته ومسيرته وخبرته المتراكمة ووعيه المتشكل في أزمنة مختلفة.