العرب بين قمتين

الدكتور منذر الحوارات العبادي

 

أعادت اللحظة الأوكرانية المكانة لبعض الملفات بشكل لم يكن متوقعًا بل وأعادت بعضها الى الواجهة بشكل مدهش، مثلاً النفط فقد كان العالم يناقش الطريقة المثلى لتأبينه ايضاً الاهتمام بالجغرافيا السياسية للمنطقة تعود إلى واجهة الاهتمام ويتصدر أمنها عناوين الاخبار، هذين العنصرين بالذات هما من دفعا جو بايدن للتخلي عن تحفظاته وربما صلفة تجاه العربية السعودية، فقد أقسم ذات يوم أن يجعلها منبوذة وبات اليوم بأمس الحاجة لدعمها ومساندتها، فالنفط قادر على أن يبقى الولايات المتحدة قوة عظمى تستطيع فرض إرادتها، فالاوروبيون بحاجة إلى مصادر بديلة حتى يتخلصوا من النفط الروسي، من جانب آخر فإن التضخم الناتج عن ارتفاع الاسعار يمكن ان يطيح بالديمقراطيين في الانتخابات النصفية القادمة، أما الجغرافيا السياسية فتتلخص بالحفاظ على أمن المضائق وممرات النفط من الاعتداءات الايرانية في حال قرر أي عمل عسكري ضدها، لذلك قرر بايدن ان يسقط كل تحفظاته ويقلع الى المنطقة بالرغم من كل الانتقادات التي وجهت إليه .

اما مسار رحلة بايدن فكانت النية أن يأتي مباشرة الى المملكة العربية السعودية، لكن نشاط اللوبي الصهيوني ودولة الاحتلال إدراجها على جدول الزيارة، ربما لحاجته إلى تحقيق انتصار سهل، فدولة الاحتلال هي المكان المناسب لذلك، لكنه واجه هناك اصراراً لا يلين بضرورة أن تدعم الولايات المتحدة فكرة ضربة عسكرية لإيران، فقد حاولت ان تحيط الزيارة بأجواء ذات طابع حربي فكانت الزيارة الاولى لمنظومات الصواريخ، لكن يبدو أن كل ذلك لم يجعل بايدن يتحمس لفكرة الدخول في حرب جديده، لذلك حاولت دولة الاحتلال ابتزازه في قضايا اخرى كثيرة في محاولة للحصول على اقصى قدر من المكاسب، بالذات فيما يتعلق بالدعم العسكري، وبايدن كان متسقاً مع كل مالا يزج بالولايات المتحدة في اي مواجهة عسكرية، لذلك وقع اعلان القدس والذي يقترب من معاهدة دفاع مشترك، دفع المليارات بدون تردد وضع حاجزاً من الغموض على مفهومه لحل الدولتين، لم يذهب الى رام الله بل جاءت رام الله اليه كل ذلك في سبيل الحصول على نجاحات مسجلة تمكنه من مواجهة الرأي العام الامريكي، تمكن ايضاً من الاستفادة من اتفاق سعودي مع دولة الاحتلال بأن يكون ثمن الدخول السعودي الى تيران وصنافير فتح المجال الجوي السعودي للطيران في دولة الاحتلال، بعد ان رفضت الرياض التطبيع بدون ثمن حقيقي يليق بمكانتها الاسلامية والعربية والخليجية وكان بايدن هو أول الممتطين لهذه الاجواء المفتوحة وهو يستطيع الافتخار بذلك امام الامريكان.

اما في السعودية، فيبدو ان الأمور كانت مرتبة بحيث لا يلقى بايدن الترحيب اللازم بسبب مواقفه من المملكة السعودية، ويبدو انه عوقب بطريقة الاستقبال اولاً، لكن ذلك لا يهم فكل طرف يريد من الآخر هدفاً محدداً، بايدن يريد النفط، والسعودية تريد من بايدن الإقرار بأخطائه تجاه المملكة، وهو الذي قرر أن ينبذ ولي العهد محمد بن سلمان بسبب اتهامه بالضلوع في قتل الخاشقجي، فبمجرد دخوله الى المملكة وتعامله المباشر مع الأمير هذا يعني أنه تخلى عن تحفظاته تجاه الأمير ولي العهد وهذا جزء مما تريده السعودية، أما التفاصيل الأخرى فيمكن مناقشتها طالما جلس الجميع على الطاولة التي حرصت السعودية أن يرأسها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وقد كان كل القضايا مطروحة النفط، إيران وبرنامجها النووي، أزمة الطاقة، التطبيع مع ( اسرائيل )، القضية الفلسطينية، أمن منطقة الخليج العربي، بالمحصلة تراوحت استجابة كل طرف للطرف الآخر، لكن ما ميز طاولة المفاوضات هو تحليها بالواقعية السياسية، فدول الخليج تحاول استثمار لحظة النفط المنبعثة من الرماد لتنتزع من الولايات المتحدة أقصى ما تستطيع من مكاسب تأخذ البعد الاستراتيجي وليس اللحظي، وبايدن حاول التملص من أي ضغط قد يؤدي الى دخول الولايات المتحدة في حرب جديدة، بالتالي فأن كل طرف حقق للأخر نصف مكاسب، فلا الولايات المتحدة حصلت على كل ما تريده من نفط، ولا الخليج حصل على كل ما يريده من أمن، ولا دولة الاحتلال حققت رغبتها في توريط العرب والامريكيان في حرب لا يريدونها، ولا هى حققت ما روجت له من تحالف بينها وبين العرب، اذاً فكل الاطراف حققت بعض ما تريد.

أما المنطقة فستبقى مفتوحة على كل الاحتمالات بالذات أن ايران اعلنت في اليوم التالي أنها وصلت الى لحظة انتاج قنبلة نووية وهذا هو الخط الأحمر الاسرائيلي والامريكي، فهل هي تدعو إلى الحرب أم تدعو الامريكان الى طاولة مفاوضات لكن هذه المرة بواقع جديد وبشروط جديد ولهذا الواقع حديث آخر وقمة اخرى.