أين اختفت إيران فجأة؟
تعاني المنطقة العربية من مجموعة كبيرة من الأمراض المزمنة أولها رفض النظام الرسمي الاعتراف بمفهوم الرشد في الحكم والذي أدت أول محاولة لتحقيقه لمواجهة دموية كانت نتيجتها دمار الدولة في أكثر من قطر، وإلى تفاقم تأثير القوى الطامعة وأولها وهو ثاني مرض (إسرائيل) التي استطاعت رغم محدودية إمكاناتها أن تصبح قوة إقليمية كبرى وهذا مكنها من فرض أجندتها على الجميع، أما المرض الثالث فهو الولايات المتحدة
الأميركية والتي لا ترى في المنطقة إلا ساحة جيوسياسية تابعة لها تتمسك بها وتتغاضى عن أخطائها عندما تقتضي حاجتها ذلك وتغادرها عندما تعتقد أن أهميتها تراجعت وتتركها أسيرة لقوى إقليمية تتصارع فيما بينها، وهنا ظهرت ايران كقوة اقليمية استطاعت أن تملأ جزءا مهماً من الفراغات التي تركتها الانسحابات الأميركية، لذلك صالت وجالت بعد غزو العراق وتمكنت من خلال حرسها الثوري وفيلق القدس منه أن تنشئ قواها
الخاصة الموازية للدولة فشكلت عن جدارة المرض الرابع، وهي التي استطاعت أن تستغل الحالة الأيديولوجية والدوغمائية لدى الكثير من الجماعات التي ترى الأمور من زواياها الخاصة ولا تعترف أو تحترم الرأي الآخر فهو إما عميل أو خائن وهذا هو المرض الخامس وهكذا استطاعت إيران استثمار غض الطرف الأميركي لتوسع نفوذها ومكانتها وأصبح لها اليد العليا في كل ما يحدث في المنطقة فهي من بيده قرار السلم والحرب،
وهي من يبقي ويغير الحكومات والرؤساء في العديد من الدول.
بقي الحال على هذا المنوال إلى أن جاءت لحظة الحقيقة التي فرضتها كورونا والتي أثبتت أن العولمة فرضت شكلاً من سلاسل الإنتاج هيمنت عليه الصين والتي رفضت الشراكة مع الغرب في وسائل تواصله الاجتماعية وغيرها من سلاسل التوريد، وهذا جعل الولايات المتحدة تتخلى عن فكرة العولمة الشاملة إلى العولمة المقيدة لذلك بدأت تفكر في طريقة بديلة لسلاسل التوريد وهذا يعني من جديد رفع مكانة العنصر الجيوسياسي وهو ما
التقطته روسيا عندما غزت أوكرانيا، وإيران الأخرى أدركت بسرعة ضرورة التفاهم مع الأميركيين العائدون للمنطقة ليس لأن المنطقة مهمة بالنسبة لهم بل لأنها نقطة للسيطرة على الخصوم وأهمهم الصينيون والذين يعتمدون بشكل كبير على نفط المنطقة وطرقها وممراتها وأسواقها، لذلك شهدنا سعيا إيرانيا للضغط على الولايات المتحدة بالتهديد بأهم حليف لديها أعني إسرائيل والدول الحليفة للولايات المتحدة وفي نفس الوقت سعت
للتفاوض معها وما يدلل على ذلك الخطوات المتقدمة التي وصل إليها الطرفان في المفاوضات ، فقد وصلا إلى حافة توقيع اتفاق تاريخي يرتب الأمور فيما بينهما .
أوقف السابع من أكتوبر كل ذلك والذي لا أدري إذا ما كان أوقف قطار التقارب السعودي الإسرائيلي أو عجلة الصفقة الأيرانية الأميركية، وما يثبت أن إيران تفاجأت بهذا الحدث أنها فقدت السيطرة لفترة وجيزة حول الكيفية التي تتعامل فيها مع الحدث، ولكنها عادت بعد قليل لتبني إستراتيجية تعتمد على مشاغلة الولايات المتحدة دون المساس إستراتيحيا بإسرائيل فكانت استجابتها للحدث في ذلك الإطار، فبدأ حزب الله يضرب في الحدود
التي لا تثير إسرائيل وبالتالي الولايات المتحدة وفي نفس الوقت تحافظ على الإستراتيجية الإيرانية المتمثلة بفكرة الدفاع المتقدم والذي يعتمد على ما عرُف إيرانيا بالحرب غير المتكافئة والتي تستند على مشاغلة العدو بعيداً عن إيران وفي نفس الوقت تترك لنفسها الفرصة للانسحاب آمنة من مسرح الحدث، ونوعية الضربات كانت بمثابة رسالة موجهة للأميركيين بأن إيران تحترم ثوابتهم الإستراتيجية وأهمها إسرائيل، لكن المعارك حافلة
بالأخطاء وكان الخطأ هنا عندما تم ضرب البرج 22 على الحدود الأردنية، في إطار رسالة موجهة رافضة لأي محاولة لإنشاء منطقة عازلة في الجنوب السوري وليس غزة طبعاً، مما أدى إلى مقتل 3 جنود وإصابة 25 عنصر أميركي، أدركت إيران بسرعة أن الولايات المتحدة لابد أن ترد بطريقة حاسمة وذلك حفاظا على ماء وجهها ولاعتبارات أميركية داخلية، لذلك تنصلت بسرعة من العملية كما فعلت سابقا مع طوفان الأقصى وفي
نفس الوقت استغلت الفرصة التي منحتها لها الولايات المتحدة لسحب كل عناصرها من الدول المعنية وأبقت بالتالي المليشيات التي لا تتحرك إلا بقرارها في مواجهة الغضب الأميركي واختفت من كل الساحات التي وحدتها سابقا فمثلما تنصلت من الغزيين والحوثيين ها هي تتنصل من مليشياتها في العراق وسوريا، ومرة أخرى تجعل المنطقة العربية تواجه تبعات طموحها الإقليمي والدولي .
لقد تبخر القادة الإيرانيون من كل الساحات فجأة، وتنحت إيران من المواجهة وأعلنت براءتها من كل ما يحدث وتحولت إلى واعظ دولي بامتياز بطريقة تثير الدهشة من سرعة هذا التحول وبدأت دمشق وبغداد وصنعاء ولاحقاً بيروت بتلقي الضربات عنها وكأنها وجدت كدروع لحماية طموحاتها التي لا تنتهي، بينما هي تفكر ملياً بالثمن الذي يمكن أن تساوم عليه أميركا لقاء كل هذه الدماء العربية المهدورة .