في أول حوار بعد خروجه.. وائل الدحدوح: تجرعت السم
الشرق أول مؤسسة إعلامية تنفرد بحوار شامل مع وائل الدحدوح:
نجري هذا الحوار الاستثنائي مع شخصية استثنائية، في مرحلة استثنائية، نحن اليوم مع رمز وأيقونة وجبل، ليس فقط هو الذي تعرض لمواقف صعبة وشكل مرحلة فارقة في عمله كشخص أو في مهنته، إنما في وطنه الذي يحمله، نحن اليوم مع أيقونة فلسطين، جبل غزة، الإعلامي والمواطن الذي عاش معاناة أهله وتعايش مع تلك الظروف الصعبة، فقد أسرته، أبناءه، أصدقاءه، زملاءه في عدوان صهيوني غاشم وحرب بربرية..
-الأستاذ وائل الدحدوح، ربما من عايش تلك الأحداث ليس كمن شاهدها عن بعد، لقد قمتم بأدوار عظيمة، أنتم شبكة الجزيرة بجميع طواقمها، تشكلت مرحلة جديدة في عمر الجزيرة، أثبتت أن الإعلام الحقيقي والمهني يمكن أن يشكل جيشاً كاملاً بمفردات الحروب الحالية.. كيف تركتم غزة خاصة وأن من أتى من هناك بالتأكيد له وصف آخر؟
حقيقة يصعب الحديث عن غزة، صعب أن تجد مفردات أو كلمات أو جُملا أو عبارات تشخص الواقع في غزة، لأنه ببساطة كما تحدثتم، ما حصل في غزة ولغزة، يفوق الخيال، يفوق طاقة احتمال البشر، يفوق التخيلات، هذه الحرب أشعرتنا فعلاً بأن كل الحروب السابقة كانت مجرد بروفات أو موجات تصعيد أو مناوشات محدودة جداً أمام هول ما رأينا، وصدمة ما رأينا، الناس في قطاع غزة يدفعون أثماناً باهظة إلى أبعد حد.
ربما تنصرف عدسات الكاميرات وتنشغل وتسلط على البيوت التي تهدم والشهداء والأشلاء وهذا كله أمر واقع، والناس في قطاع غزة لا يدفعون هذا الثمن فقط، لأن هناك أثمانا باهظة على مدار اللحظة، فحالة النزوح التي يعيشها الناس حالة مؤلمة جداً وصعبة ومعقدة جداً، تجعل الناس يحلمون في أبسط الأشياء، يحلمون في "خيمة"، لا نبالغ بالقول إن علية القوم في غزة يصل بهم الحد أنهم يترجون لأن توفر لهم خيمة، وهي في نهاية المطاف "خيمة" لا تقي برد الشتاء أو حر الصيف، الناس تحلم في امتلاك خيمة وكأنها قصر، ولكن في نهاية المطاف هذه الخيمة موجودة في صحراء أو في أرض جرداء، لا يوجد فراش أو طعام أو مياه، هي في مناطق ليس بها بنية تحتية أو مقدرات، ولا حتى دورة مياه أكرمكم الله، وهذه كوارث كبيرة.
هذه الحرب بكل تأكيد مختلفة على كل الأصعدة، فهي بدأت من حيث انتهت الحروب السابقة فيما يتعلق على الأقل بقضية التدمير، بمعنى أن "إسرائيل" بدأت في حرب الأبراج والبنايات المرتفعة ودمرتها، ثم بدأت في حرب المنازل ودمرتها على رؤوس ساكنيها، بغض النظر كم يحتوي هذا البيت من بشر 20، 30، 100، 120، لا وجود لحاجز أو خط أحمر، وبدأت بإغلاق المعابر وقطع الكهرباء والماء، وبالتالي أصبح قطاع غزة يعيش للمرة الأولى هذه القسوة، فالحروب السابقة نعم كانت قاسية وفتاكة، لكن كان لكل حرب ما يميزها، كانت هناك فسحة من الأمل، معبر يعمل، بعض المناطق كانت أقل خطراً من الأخرى، كانت الناس تجد بعض المناطق الآمنة للهروب إليها، لكن هذه المرة لا توجد بقعة آمنة أبداً، لا يوجد مكان آمن تلوذ به، واليوم اقتربنا من 4 أشهر على العدوان، والحرب تحصد الأخضر واليابس، وفصول المعاناة تشتد شيئاً فشيئاً، كل دقيقة، كل ساعة، كل ليلة، وكل يوم، نحن نتحدث عن فاتورة كبيرة جداً وباهظة جداً، ومعاناة تشتد على مدار اللحظة.
******
******
- هل استطاع الكيان "الإسرائيلي" أن يحقق أهداف قادته السابقين أو الحاليين في كسر شوكة غزة من خلال هذه الجرائم؟
واقع الحال يرد على هذا السؤال، "الإسرائيليون" أعلنوا عن تحرير المحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة في غزة، أين هم بعد 4 أشهر أو أكثر من 110 أيام؟ لم يستطيعوا تحرير جندي "إسرائيلي" واحد في قبضة المقاومة، هذا فشل ذريع وصفر كبير، أيضا ً على سبيل المثال إزالة حماس عن سدة الحكم أو تجريدها من قوتها، أو تدمير البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية في غزة، هل هذا تحقق؟ بالتأكيد لا، اليوم بعد أكثر من 110 أيام عندما نشاهد في شمال القطاع الذي يضم مدينة غزة ومحافظة الشمال اشتباكات تندلع مع قوات الاحتلال "الإسرائيلي" في كثير من المحاور، واستهداف للدبابات "الإسرائيلية"، وأكبر رشقة صواريخ تستهدف تل أبيب خرجت من الشمال، إذن نحن أمام فشل ذريع، على الأقل أمام الأهداف التي أعلنتها قوات الاحتلال "الإسرائيلي" وقادة الاحتلال، لم يتحقق منها شيء، ماذا بقي؟ بقي حالة الدمار والتدمير والشاملة وسياسة الأرض المحروقة التي اتبعتها قوات الاحتلال ضد الحجر والبشر في غزة، وهذه بالتأكيد هي الورقة الأكثر إيلاماً وكلفة بالنسبة للواقع الفلسطيني، لكن لم يحقق الاحتلال أهدافه، على العكس فالمقاومة ما تزال قادرة على الصمود، ومن وجهة كل الاستراتيجيين والمراقبين والعارفين بالعلوم العسكرية، مجرد بقاء المقاومة وصمودها ومناوشتها أمام هذه الترسانة العسكرية التي يدعمها العالم، بعد أكثر من 110 أيام، إضافة إلى تحقيق عمليات تودي بحياة عشرات الجنود "الإسرائيليين"، فهذا يقترب من الإعجاز في بعض الأحيان، وهذا هو المهم بالنسبة إلى المقاومة، فأنا أعتقد أن المقاومة ترى أنه طالما هي قادرة على البقاء هذا يعتبر انتصارا كبيرا بعدما تحقق النصر في 7 أكتوبر.
******
لاشك أن أحد أهم أهداف القصف وحالة الدمار والتدمير هو استهداف حاضنة الفصائل والمقاومة الفلسطينية بالضغط عليها، أولاً لكي الوعي، ولم يكن كي هذا الوعي فقط لقطاع غزة، ولكنه ضد الوعي العربي والمسلم ولكل العالم، وكمحاولة لاستعادة هيبة هذا الجيش الذي ذهبت أدراج الرياح في السابع من أكتوبر.
ومن وجهة نظري الشخصية، فإن ما يحدث يفوق احتمال طاقة البشر، ولذلك فنحن حتى لا نطالب الناس بأن يكونوا على درجة واحدة من الصمود والثبات والصبر ومواجهة الخطوب، خاصة وأن هناك من فقد كل أسرته وبيته، والذي ظل يعمل عليه منذ عشرات سنينن، ثم يفقده في لحظة واحدة.
لذلك، نجد المواطن الفلسطيني ماهراً بشكل لا يتوفر ما لدى الشعوب الأخرى في صناعة الحياة، حتى في ظل الخطوب والأزمات والحروب، ولنا أن نتخيل رغم كل ما يواجهه المواطن الفلطسطيني، فهو يستحضر الحياة ويعود بالذاكرة إلى الوراء، حتى وهو في خيمته، رغم كل ما يواجهه من خطوب، حيث نجد أباً مثلاً يحتفل رمزياً بعيد ميلاد طفلته الصغيرة، حتى يواسيها ويسليها، لتقوى على مواجهة هذا الخطر الكبير، خاصة وأن صوت "الزنانة" لايغادر المكان، كما أن أصوات القصف والدبابات حاضرة على مدار الساعة، ومن حول الناس.
وأعتقد أن هذا الشعور أصعب من القتل والتدمير، لأنه على مدار اللحظة فإن الكبير والصغير، الرجل والمرأة، الغني والفقير، والمسؤول وغيره، جميعهم يعيشون بهذه الروح، وأنهم مستهدفون، وأنهم بعد لحظة قد يكونون غير موجودين على قيد الحياة، وهذا شعور صعب للغاية، ومع ذلك نجد الناس في الغالب الأعم يقولون "فدا فلسطين"، وهذه نفسية تستعصي على الحل، كما أنها نفسية معقدة للغاية، وتستعصي أيضاً على الفهم.
ومن خلال قناعتي الشخصية، فإن الله سبحانة وتعالى قبل أن يبلي، فإنه يدبر، كما أنه سبحانه وتعالى هو الذي يربط على القلوب ويصبر الناس ويثبتهم، وإلا فإن هذا الوضع في غزة لايمكن لأي إنسان أن يثبت خلاله، وإذا ثبت، فإنه يثبت في ملمة واحدة، وفي خطب واحد، أو في يوم واحد، أو في أسبوع واحد. ولكن على مدار أربعة أشهر، ليلاً ونهاراً، أمام هذه المعادلة، فهذا أمر صعب للغاية.
******
- أمام هذه الروح، نجدك نموذجًا لكل صاحب قلم حر في وقت كانت هناك هجمة إعلامية من جانب الإعلام الغربي لتشويه الحقيقة، لذلك، فإن "إسرائيل" إذا كانت قد حاولت اجتياح غزة بالدبابات، فقد كنت أنت الصوت الحر، وأصبحت رمزًا للكلمة الحرة. لذلك نأمل تسليط الضوء على هذا التحدي الإعلامي الذي استطعت أن تقدمه كنموذج للإعلاميين في العالم؟
يصعب على الإنسان الحديث عن نفسه، ولكن بما أنها أصبحت قصة، اختزلت القصة الفلسطينية، فإن الإنسان يمكن له الحديث فقط من أجل تعميم هذا النموذج، إن صح التعبير.
وأولاً وأخيرًا، فنحن نقوم بواجبنا وعملنا ونقدم جهدنا على أكمل وجه بقليل من الإخلاص، مدركين بأن هذا هو المتاح بالنسبة لنا للدفاع عن المساكين، وكذلك الدفاع عن كل من يتعرض لهذه الهمجية والدمار والقتل، ولذلك لم يكن أمامنا سوى هذا الصمود. وبالمناسبة نحن نقوم بهذا الواجب بأعلى درجات المهنية التي لايمكن أن تتوفر في أكثر النماذج مهنية في العالم.
وفي كل مرة، وبفضل الله أولاً، يكون سبحانه وتعالى قد منحنا الصبر، ولسنا قوة خارقة، فهو الذي يمدنا بأسباب الصبر، وأعتقد أن الرضا والتسليم بقضاء الله هو كلمة السر الكبرى التي تمكننا من احتمال هذا الألم المتكرر، وهذه المعاناة، ونحن في نهاية المطاف، نؤمن بأن هذا قضاء الله وقدره، وعلينا التسليم والرضا به، مهما كانت النتائج، وهذه قناعة سابقة، والحمد لله كنا مهيأين لذلك، لإدراكنا بأننا نعمل في مهنة خطرة، وفي منطقة خطرة أيضاً، ودائما كنا نتوقع أن نكون هدفاً
******
- هذا يقودنا إلى القول بأن الاستهداف لم يكن استهدافاً لك شخصياً، بقدر ما هو استهداف لما يمثله وائل الدحدوح من رمزية ونقل للحقيقة، فضلاً عن استهداف ما يقارب من 120 صحفياً استشهدوا في عدوان واستهداف مباشر، ومع ذلك فقد كان استهدافك ممنهجاً ومخططاً بدرجات متفاوتة. والسؤال هل كان الكيان "الإسرائيلي" يسعى من خلال استهدافك إلى اغتيال الحقيقة، حتى لا تُنقل إلى العالم، لحجب جرائمه؟
بدون أدنى شك في ذلك، فالاحتلال "الإسرائيلي" واضح منذ البداية بأنه لايريد لعيون الحقيقة أن تنقل ما يحدث، ولذلك استهدفت من بين الصحفيين الفلسطنيين الذين استهدفهم الاحتلال "الاسرائيلي"، والذي لايريد لنماذج غير معهودة في عالم الصحافة أن تشكل مصدر إلهام، فهو يريد أن يشطب هذه الرمزية بالفعل ويقتلها، وألا تقوم لها قائمة، وألا تكون مصدر إلهام يمكن أن يُعمم، ليس فقط على صعيد الصحفيين الفلسطينين، ولكن بالنسبة لصحفيي العالم، لأن هذا هو الأخطر بالنسبة لهم، كما يرون.
ولعل أخطر ما يزعج "إسرائيل" هو النموذج الملهم، ولذلك فهى لا تريد له أن يحيا على الإطلاق. غير أن جزءًا كبيرًا من قوتنا وصمودنا هو هذا النموذج، فقد أدركنا أن ما نقوم به مهم لهؤلاء المساكين، ومهم كذلك للأسرة وللحركة الصحفية في قطاع غزة وخارجها، وخصوصاً بعد أول استهداف، وهو استهداف الأسرة، حيث كان الناس يعتقدون أنني سأغيب عن المشهد، بسبب هذا الظرف، الذي فقدت على إثره أفراد أسرتي، و14 شخصًا من أبناء عمومتي، خلاف المصابين، والذين كانوا في حاجة إلى رعاية وتطبيب.
وحقيقة، لم تكن زوجتي هى عماد البيت، بل كانت هى كل البيت، لغيابي عنه، سواء أثناء الحرب أو في غيرها، ولذلك فإنني مع فقدها، فقدت كل شيء. أمام كل ذلك أصبحت في حيرة من أمري، بعدما أصبح عملي في مدينة غزة، بعد رحيل كل الصحفيين عنها، غير أنني قررت أن أبقى فيها، مصطحباً أفراد أسرتي المصابين في منطقة غزة، وهى المنطقة الأخطر، وكان ذلك قراراً صعباً للغاية، غير أن الأمر لم يكن بحاجة لمزيد من الوقت والتفكير، إذ أدخلت أفراد أسرتي المصابة مستشفى الشفاء، وبعد ذلك أجريت لهم العلاج اللازم.
وأمام كل ذلك، قام الاحتلال "الإسرائيلي" بالاتصال على هاتف إحدى بناتي، وقال لها: "يا سندس عودوا إلى الجنوب". وهنا كنت أمام خيارين، إما الجلوس مع من تبقى من الجرحى والمصابين ورعايتهم، وهذا حقهم بالطبع، وأقل من الحق الطبيعي، أو أن أعمل على إحياء الأمل في نفوس الزملاء الصحفيين والمواطنين وكذلك في نفوس العالم، وبالطبع اخترت الخيار الأخير.
******
- وكيف تمكنت في تلك اللحظات أن تتجنب الجانب الإنساني والعاطفي، وتلك اللحظات الصعبة التي قد يمر بها الإنسان، لتظهر بكل هذه القوة، وتلك الموضوعية في نقل الأحداث. ومن أين استمديت كل هذه القوة؟
استمديت هذه القوة من الله تعالى، فقد كنت أمام تحدٍ كبير، ليس فقط بالنسبة لي، ولكن لكل الذين ينتظرونني، ولا أريد أسهب كثيراً في هذا الجانب، غير أنني أنهيه بالقول إنني توجهت إلى الله سبحانه وطلبت منه العون، فهو الذي ألهمني الصبر والثبات، لأظهر على هذا النحو، وحينها استجمعت كل قوتي ورباطة جأشي وكل خبراتي مع استحضار الذهن والعاطفة والجوانب العاطفية والإنسانية والعقائدية، وشعرت بأنني إذا بقيت مع بقية أفراد الأسرة، فإنها ستكون هزيمة بالنسبة لي، وهى الهزيمة التي أرفضها جملة وتفصيلا.
- أمام هذا كله، وكما ألهمت الشعوب العربية والعالمية، هل كان يصلك حجم الدعم والتعاطف والدعاء معك ولك؟ وهل أسهم ذلك أيضاً في تقوية صمودك أكثر، والشد من أزرك لاستكمال المهمة؟
بدون أدنى شكل، بأن هذا كان أحد أشكال ما كان يصبرنا، ففي ظل الظروف التي كنا نعيشها، لم تكن هناك إمكانية للتواصل مع الناس، واستقبال هذا الحجم الكبير من التعاطف والمساندة، لعدم وجود الاتصالات ولظروف الحرب، غير أنه كانت تصلنا بعض من هذه الردود وأفعال التضامن، وإن كانت قليلة في بادئ الأمر، غير أن ذلك كان يواسينا.
وربما الذي كان يشعرنا بكثير من الاستغراب أن الأطفال في عمر 7 سنوات، كانوا في ارتباط غير طبيعي مع هذا النموذج، فحينما انتقلت إلى خان يونس، وجدت بعض الناس يأتوننا من محافظة أخرى لإبلاغي بأن ابنهم يود الحضور للسلام علي. كما جاءتني امرأة طاعنة في السن للخيمة، لتعبر عن دعمها لي، وتقول "إنك فوق رؤوسنا، رغم الخطوب الكبيرة التي خاضتها، والمسافة الكبيرة التي قطعتها.
كل هذا جعلني أدرك أن الموضوع مختلف، وتجلى أيضاً مع غير الناطقين باللغة العربية حول العالم، الذين أحدث لهم هذا النموذج صدمة كبيرة للغاية، تلقيت على إثره الكثير من أشكال التعاطف والتضامن، ولذلك فالجانب الإنساني وضعنا أمام اختبار صعب للغاية، لم يكن أمامي فقط، ولكنه كان صعبًا على جميع الناس، فأكثر من كان يشاهدني كان يترقب كيفية تصرفي، غير أن الله سبحانه وتعالى أمدنا بالقوة التي مكنتنا من النجاح.
******
- هل كان استهداف مكتب الجزيرة في غزة في إطار استهداف الصوت الحر، ومن ثم اغتيال الحقيقة، خاصة وأن الجزيرة كانت تشكل تحديًا كبيراً أمام الكيان "الإسرائيلي"؟ وهل كان هذا الاستهداف بماثبة رسالة للجزيرة بضرورة أن تختفي عن المشهد؟
بدون أدنى شكل، فقد كان الاستهداف يحمل هذه المضامين والرسائل، وإذا كان هناك استهداف عام للصحافة، فإنه كان هناك استهداف خاص لقناة الجزيرة، ولايجب ان يغيب عن بالنا ما حدث مع الزميلة شيرين أبوعاقلة، والتي استهدفت في منطقة آمنة برصاص القناص، والذي كان يعرف من هى شيرين أبوعاقلة، ولم تكن حينها في منطقة ساخنة على غرار غزة على سبيل المثال، ورغم ذلك تم استهدافها، وهى من هى، المعروفة بأنها ابنة القدس، والتي تحمل جوازا أمريكيا، ولديها الكثير من القضايا التي كانت تصعب من مهمة استهدافها، ورغم ذلك تم استهدافها.
وأذكر أن استهداف الجزيرة في هذه الحرب، لم يكن هو الاستهداف الأول بالطبع، ففي حرب عام 2014 تم استهداف المكتب، وكذلك في حرب 2021. لذلك كان تدمير المكتب هو العنوان لاستهداف الجزيرة، فضلاً عن قصة الاستهداف الشخصي، وكان ذلك رسالة بأن الجزيرة تتجاوز الخطوط الحمراء فيما يتعلق بالتغطية، فعندما يتم المقارنة بين تغطية الجزيرة وبين بقية الفضائيات فإننا نكتشف الفارق الكبير، وهذا ما لايريده الاحتلال"الإسرائيلي"، وهذا أيضاً ما يزعجه كثيراً.
******
- هذه المهنية غابت عن مؤسسات إعلامية كبرى ورأينا ان تغطيتها للحرب على غزة كشفت انحدار تلك المؤسسات الى ازدواجية المعايير خلافا لكل الشعارات المهنية التي تزعمها وحرية الصحافة التي تدعيها؟
مع الأسف هناك انحياز كبير من مؤسسات وشبكات إعلامية عالمية الى الرواية الاسرائيلية وهناك ايضا انحياز في المنصات الرقمية ووسائل التواصل. وهذا الانحياز لا يخفى على احد وليس بالجديد لكن الحرب في غزة كانت الكاشفة والفاضحة لانحياز الغرب بمؤسساته الاعلامية الى اسرائيل والوقوف معها وتعمية الحقائق التي تتعارض مع الرواية "الاسرائيلية". لكن هناك كثيرا من القصص والوقائع ومن بينها ما حصل معي ربما جعلت شبكات التلفزة الغربية تضطر لتغيير جزء من سياستها التحريرية تجاه ما يحدث على الارض في غزة لانه في نهاية المطاف عليها ان تقتنع وتدرك انه يجب عليها الاستماع لما يجري بأذنين وليس بأذن واحدة وان تنظر بعينين وليس بعين واحدة وهذا الذي بدأ يحدث ولو بشكل جزئي لدى عدد من المؤسسات الاعلامية المشهورة.
******
- هل نستطيع القول الرواية "الاسرائيلية" ضربت بالفعل على الصعيد الإعلامي؟
أعتقد الى حد كبير تهاوت الرواية "الاسرائيلية" في الاعلام الغربي ولم تعد مسيطرة. نحن عشنا عقودا من الزمن تحت سيطرة الرواية الاسرائيلية على الاعلام الغربي ولكن في هذه الحرب تهاوت الرواية "الاسرائيلية" الى حد كبير واصبحنا نرى في معاقل دول الانحياز لاسرائيل مسيرات ومظاهرات ضخمة تعبيرا عن التضامن مع فلسطين. لقد سقطت الرواية "الاسرائيلية" لانتهاكها المعايير الاعلامية وأصبحت الرواية العربية هي السائدة لمصداقيتها والتزامها بالمعايير المهنية.
******
- الاحتلال الاسرائيلي كان يدعي خلال استهدافه للاحياء السكنية ان هناك مقاومة تطلق الصواريخ، ما مدى حقيقة ما يدعيه عن وجود مقاومة في المناطق السكنية والمستشفيات ؟
******
- هل تلقيت أي تضامن من الكيانات والمنظمات الاعلامية العالمية التي تدعي حماية الصحفيين والدفاع عنهم ؟
في قصتي خصوصا مع هذا المسلسل من الاستهداف. كان هناك تعاطف واسع من اطياف مختلفة من دول ومؤسسات وافراد على المستويات المحلية والاقليمية والعالمية. وربما هناك لفتات كريمة ساهمت برفع المعنويات والاستمرار. لكن في نهاية المطاف نحن الصحفيين نرى ان هناك دورا يجب ان تقوم به هذه الكيانات والمنظمات ليس فقط ان تدين وترحب وتشيد عليها ان تقوم بحملة ضغط على اسرائيل حتى توقف هذه المقتلة بحق الصحفيين. 120 صحفيا قتلوا خلال اربعة اشهر. هذا الرقم كبير وصادم وغير مسبوق ولم يحصل حتى في اعتى الحروب التي استمرت عشرين عاما. كان ينبغي ان تقوم هذه الكيانات والمؤسسات بأدوار فاعلة لحماية الصحفيين باعتبار ان الصحافة مهنة انسانية نبيلة مقدسة كفلتها كل القوانين والمواثيق التي تعاهدت عليها كل الدول وعلى رأسها الدول الغربية. فأين هذه الدول من حماية الصحفي الفلسطيني والصحفي في كل مناطق النزاع وهي مهمة يجب ان تكون مكفولة. لكن للاسف ما يجري على الارض غير ذلك. ولذلك نقول ان هذه المؤسسات قادرة ان تضغط على اسرائيل لوقف هذه المقتله بحق الصحفيين.
******
بعد ان خرجت من غزة يصعب الحديث ولكن هم يدركون ان خروجي كان لظرف قاهر وانا كأنني تجرعت السم عندما خرجت من غزة. ولكن كان لزاما ان اخرج. للزملاء بالتأكيد اتمنى ان يتسلحوا دائما بالقوة والعزيمة والارادة والصبر والالتزام بالمهنية التامة والاستمرار في حمل هذه الرسالة وأداء الواجب لنقل حقيقة ما يحدث على الارض وهو كبير وكبير جدا ويحتاج الى جهد الجميع.
******
- نختتم معك هذا الحوار وانت خارج الوطن في رحلة علاجية، ما هي رسالتك الى العالم الذي يشاهد ما يجري في غزة بدون ان يحرك ساكنا ؟
أقول في هذه الرسالة بوضوح شديد ما يحدث في قطاع غزة ظلم شديد وهي مأساة انسانية بكل تفاصيلها. وعلى العالم كله أن ينظر بعينين وليس بعين إسرائيلية واحدة وأن يستمع إلى رواية المظلومين والمقهورين بأذنين وليس بأذن واحدة وهذا أبسط شيء وأبسط حق من الحقوق الإنسانية التي يجب أن يقوموا به تجاه الشعب المقهور والمظلوم والمحارب والمقاتل والمحاصر. هذا أبسط شيء نطلبه. ومن ثم عليهم أن يصوبوا بوصلة مواقفهم استنادا الى روايات حقيقية مدعمة بالصور والمشاهد الميدانية.