كيف تفكر أميركا لإنقاذ "إسرائيل" بمعزل عن نتنياهو؟

{title}
أخبار الأردن -

راكان السعايدة

عندما شنت "إسرائيل" عدوانها على قطاع غزة انتقاما لهزيمتها في 7 تشرين أول، ألقت أميركا بكل ثقلها السياسي والعسكري خلفها، ومعها دول أوروبية رئيسة من وزن بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا.

ظنت واشنطن حينها أن الكيان قادر على حسم المعركة بسرعة، بما يغير واقع قطاع غزة وينهي المقاومة، ويمحو آثار الهزيمة، ويستعيد الردع والهيمنة، ويمهد لمشروعها المناوئ للصين بإنشاء طريق الهند - الخليج - "إسرائيل".

هذا الظن لم يصمد طويلاً، فبعد شهرين من العدوان أيقنت أميركا أن "إسرائيل" فشلت في تحقيق أي من أهدافها المعلنة، وحتى الخفية، وأخذت تغرق في رمال غزة، وتغامر بوجودها.

عندها، اندفعت واشنطن لتعديل مقاربة الحرب خلافاً لجوانب عديدة لمقاربة رئيس وزراء الكيان بنيامين نتانياهو، بعد أن أدركت أن نتانياهو يخوض الحرب لأسباب شخصية.

وأميركا ليست بوارد خوض حرب من أجل شخص هي أصلاً تضع عليه ملاحظات جوهرية قبلها، أي إبان تلاعبه مع حلفائه المستوطنين وغُلاة المتطرفين بقوانين الكيان لتحجيم دور القضاء.

فواشنطن معنية بالكيان وليس بنتانياهو أو أيٍّ من حلفائه الذين يعطلّون مشاريعها ومخططاتها لتطبيع العلاقات مع المحيط العربي بعيداً عن حل القضية الفلسطينية؛ فالكيان قلعتها في المنطقة ولن تترك مصيره بيد رئيس حكومةٍ مأزوم بملفات فساد ينظرها القضاء ومرتهَن ليمينٍ متطرف.

كما أن قلقها يتزايد يومياً حيال تآكل صورتها دولياً وداخلياً بسبب الدعم غير المحدود للكيان الذي يرتكب يومياً جرائم إبادة بالسلاح والدعم الأميركيين؟

على هذا الأساس قالت أميركا كلمتها لنتانياهو وقدمت مقاربتها: الانتقال إلى المرحلة الثالثة من الحرب بعمليات جراحية مركزة، وتجنب المدنيين، وزيادة وتيرة دخول المساعدات، وعدم اقتطاع أي جزء من القطاع، والتوقف عن التفكير، أو التحدث، بمسألة التهجير والإحلال الاستيطاني، وحل سياسي ينتهي بدولة فلسطينية.

المقاربة هذه لا تعني إطلاقاً أن أميركا تحولت إلى ملاك ودولة ذات قيم إنسانية وأخلاقية، وإنما هي مقاربة تريد بها إنقاذ الكيان من قيادته بدون التضحية بأغلب أهداف الحرب لجهة إضعاف المقاومة، إن لم يكن هناك من سبيل لشطبها، ومنع فرص استمرار حكمها للقطاع.

هذه المقاربة في العموم لم تعجب نتانياهو ولا أبرز حليفَين متطرفَين له (إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموترتيش)؛ فهما يصرّان على الحرب بكل قوتها التدميرية، ويريدان استيطانَ القطاع، وتصفية المقاومة عسكرياً وحكماً، ومناطق عازلة، وتهجير أغلب سكان القطاع إلى خارجه.

كما أنّ نتانياهو نفسه يعلم تماماً أن اليوم التالي للحرب يعني بالضرورة إنهاء حياته السياسية، وربما محاكمته، إذا لم يخرج منها بصورة المنتصر والمنقذ للكيان.

إن نطاق تفكير أميركا ورؤيتها، وهي تضع مقاربتها، أوسع بكثير من نطاق تفكير نتانياهو ورؤيته.. فواشنطن تتحسب وتسعى للتالي:

أولا: "إسرائيل" تُستنزَف وتُهزَم في قطاع غزة، وفشلت في تحقيق أيٍّ من أهدافها، وهي معلَّقةٌ على رأس شجرة لا بد من إنزالها عنها ولو جبراً، أي أنّ أميركا تريد إنقاذ كيانها المصطنع قبل أن تفقده وبخاصة بعد أن فقد الدعم الشعبي العالمي والدول التي دعمته بداية العدوان، ثم صارت تنتقده.

ثانيا: الخشية من اشتعال جبهة لبنان؛ ما يهدد المنطقة كلها، وأميركا تعتقد أن نتانياهو يريد إشعال هذه الجبهة لتوريطها وإطالة أمد الحرب لتجنب الحساب، لذلك تخوض واشنطن اتصالات وضغوط واسعة لتجنب توسع الحرب بما في ذلك في الضفة الغربية.

ثالثا: تخفيف حرج أنظمة عربية وإسلامية متهمة إما بالضعف والتخاذل عن إنقاذ شعب غزة أو بالتواطؤ والتآمر، وهذه الأنظمة محرجة أمام شعوبها، فهي إن لم تفقد شرعيتها فقد فقدت شعبيتها.

رابعا: الرئيس الأميركي جو بايدن وحزبه يخشون خسارة الانتخابات العام الجاري على وقع غضب شعبي معارض للعدوان، وخاصة الشباب، وخسارة فرصة دعم الولايات المتأرجحة.

خامسا: أميركا أخذت تفقد تأثيرها العالمي وتواجه حرجاً شديداً حيال قيم إنسانية وإخلاقية وشرعية دولية يفترض أنها "القايد" الذي يحدد دورها العالمي ويمنحها أسباب النفوذ.

سادسا: واشنطن لديها مصالح حيوية في المنطقة، ولديها مشاريع تتصل بنفوذها العالمي وتنافسها مع الصين وروسيا، وجزء أساسي من بنية هذه المشاريع تطبيع العلاقات الإسرائيلية العربية التي تأثرت عميقاً بما تفعله "إسرائيل" في القطاع.

مثل هذه الحسابات ليست أولوية نتانياهو وزمرة المتطرفين الذين معه، فحسابات هؤلاء داخلية بحتة، أكانت حسابات تخص مستقبلهم السياسي والخشية من المحاكمة على الفساد والهزيمة، أو استغلال الواقع الراهن لتنفيذ مخططات التهجير والسيطرة على الضفة الغربية وقطاع غزة.

لذا؛ ستحاول هذه المجموعة مقاومة المقاربة الأميركية، لكنها، وليقينها أن "إسرائيل" لا تستطيع الاستغناء والمضي بدون دعم أميركا، قد تحاول أن تعدل مقاربتها نسبياً لإدامة هذا الدعم بدون التخلي عن الأهداف الموهومة.

هذا لن يقنع أميركا التي قال مسؤول في إدارتها، بالتزامن مع زيارة الوزير أنتوني بلينكن الأخيرة، أن "على نتانياهو الاختيار بين طريقة بن غفير وسموترتيش في الحكم أو طريقة ترضينا".

نتانياهو لن يستطيع اختيار طريقة ترضي أميركا، لأسبابه الذاتية الخاصة، والأهم أنه لا يستطيع الانفكاك من تحالفه مع بن غفير وسموترتيش لأن "فرْط" هذا التحالف يعني خسارته رئاسة الحكومة وليقينه أن المعارضة التي يقودها بيني غانتس ويائير لبيد لن تتحالف معه لتشكيل حكومة برئاسته.

أميركا تدرك معضلة نتانياهو جيداً، وتدرك أن اليمين المتطرف بكل تلاوينه سبب بقاء نتانياهو السياسي ولم يعد له حلفاء غيرهم، وهذا اليمين يدرك ذلك ويستثمره ليتحكم بنتانياهو وخياراته السياسية والعسكرية.

ماذا بمقدور أميركا أن تفعل لحل هذه المعضلة..؟

منذ شهر وأميركا تراكِم الخطوات للفصل بين نتانياهو و"إسرائيل"، وهو ما شجع العديد من النخب الإسرائيلية والسياسية لمطالبة نتانياهو بالاستقالة، وحفّز المعارضة لتنشط أكثر في تحميله وحلفائه مسؤولية الفشل في تحقيق أهداف الحرب.

هذا جعل نتانياهو بين ضغطين؛ ضغط أميركي متحالف مع المعارضة ونخب سياسية وعسكرية، مدعوم بحراك الشارع لتحرير الأسرى، وضغط المستوطنين والمتطرفين الذين هم قوام تحالفه الحكومي.

لن يصمد نتانياهو طويلاً، وإن كان يحاول مقاربة الضغطين لضمان استمراره، ففي لحظة فاصلة سيجد نفسه منحازاً بكلّيته لحلفائه المتطرفين وبخاصة عندما يغادر بيني غانتس وغادي أيزنكوت مجلس الحرب، فاستقالتهما محتملة في أي لحظة.

وإذا ما استقال غانتس وأيزنكوت فسيكون لاستقالتهما مفاعيل قوية في الشارع الإسرائيلي الذي يتوقع أن يبدأ حراكاً شعبياً ضاغطاً يدعو لانتخابات مبكرة للكنيست، وحال جرت مثل هذه الانتخابات فالمؤكد أن غانتس سيشكل الحكومة المقبلة في ظل تراجع حاد في شعبية نتانياهو وحلفائه.

من الناحية الواقعية، إذ لم يتماهَ نتانياهو وحلفاؤه مع أميركا، فلا سبيل للتخلص منهم إلا بانتخابات مبكرة، ما لم يفاجئ نتنياهو الجميع بتوسيع نطاق الحرب لخلط الأوراق وشل المقاربة الأميركية والتشبث بالسلطة.

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير