الاخبار العاجلة
محاولة لتبريد الرؤوس

محاولة لتبريد الرؤوس

أحمد أبو خليل

هذه ملاحظات "ذات اليمين وذات الشمال" عن النقاش السياسي الجاري حول الحرب وحضورها المحلي، وبالذات ما يتعلق بطروحات الشارع بأنواعه المختلفة: المعارض والموالي والمتعاطف والغاضب، إلى جانب موقف الحكم والسلطات والأجهزة. وبالمناسبة، هذا النقاش يتكرر في الأحداث المماثلة، مع قدر من التنوع حسب الرغبات والإمكانات والمطامح والأوهام أحيانا.

كأردنيين، هل علينا أن نخاف مما يجري أم نتفاعل ونتفاءل؟

سأحاول التكثيف والاختصار، ودعوني أبدأ بالحكاية التالية من تاريخنا الوطني، وهي تحمل مصادفة نادرة:

بعد حالة مد شعبي وطني وقومي شامل في خمسينات القرن الماضي، تشكلت حكومة سليمان النابلسي الشهيرة في 28 تشرين أول 1956. وهي كما تعلمون مثلت قوى الشارع البارزة في معارضة ذلك الوقت: وطنيون واشتراكيون وبعثيون وشيوعيون. حينها لم يكن الإخوان المسلمون معارضين.

كان تأييد الرئيس جمال عبدالناصر أحد عناوين تلك الحركة الشعبية. ولكن مفاجأة كبيرة حصلت، فقد بدأ العدوان الثلاثي الشهير ضد مصر (حرب السويس) بعد عدة أيام من تشكيل تلك الحكومة، وهو ما كان يعني أن القوى التي كانت قبل قليل في الشارع تتظاهر تأييدا لعبدالناصر وتنادي بالقتال وبالوحدة معه، وجدت نفسها بسرعة في السلطة، وعليها أن تتخذ موقفا عمليا، وكان الجميع يتنظر موقفا منسجما مع ما كان تنادي به.

إنها في الواقع حالة نادرة من حيث سرعة الانتقال من موقع الهتاف في الشارع إلى السلطة، وهي نموذج على التفريق بين موقف "المناضل" وموقف "صاحب السلطة". لقد كانت تلك أياما حرجة، وقد سجل ذلك من عايشوها.

من أطرف ما حصل حينها، ان الراحل ضافي الجمعاني، وهو أحد قيادات حركة الضباط الأحرار الأردنيين، دخل إلى زملائه غاضبا بعد بدء العدوان، وراح يصرخ بهم مطالبا بالتدخل بالحرب ضد العدو، محتجا على التناقض السريع في الموقف. وبلغ الأمر أن الجمعاني أبلغ زملاءه أنه ذاهب لإطلاق النار من مدافع كتيبته، لولا أن سارع أحد القادة إلى إبلاغه بأن المصريين أرسلوا طلبا رسميا بعدم توسيع الحرب. والحادثة موثقة من أكثر من طرف، وسجلها الجمعاني وزميله شاهر أبو شحوت (قائد الضباط الأحرار) في مذكراتهما.

أورد هذه الحكاية، بهدف محاولة "تبريد" أعصاب المشاركين في النقاش الجاري حاليا من الطرفين. إن الاحتلاف في موقف الشخص نفسه، عندما ينتقل من الشارع إلى السلطة، هو أمر طبيعي في الممارسة السياسية. إنه جزء من لعبة السياسة، دعوني أستخدم الكملة الدارجة حاليا لأقول: إنها قواعد الاشتباك السياسي، وعلى طرفيها أن يستوعبا ذلك، ويخففا من توترهما.

من العبث المناداة بسلوك "منطقي"، لأن كلا منا يحمل تعريفا خاصا للمنطق. أنك لا تستطيع حرمان أطراف الصراع السياسي من أسلحتهما، وخاصة سلاح الإحراج والضغط وسلاح التخوف والحرص.

تتقن بعض السلطات توظيف الضغط الشعبي في علاقاتها الدولية، فتقدم ذلك كتفسير لرفض أو قبول بعض المطالب الدولية. للأسف ليس لحكوماتنا خبرة كافية في هذا المجال، والغريب أنها اعتادت المطالبة بوحدة الشارع مع الحكومة عبر تماثل الموقفين الشعبي والرسمي، باعتبار ذلك أمرا مفيدا بوجه الآخرين. وهو لو حصل سوف يضعف الطرفين معا: الحكومة بين الحكومات، والشعب بين الشعوب.

اليوم هناك بعض المطالب الشعبية العالية، منها مثلا: فتح الحدود، استقبال فصائل المقاومة، وصولا إلى الدخول في الحرب.

بالطبع، إن الشعوب ومن بينها الشعب الأردني، يتمنى أن يكون بلده والسلطة في بلده في أقوى الأوضاع وأكثرها صلابة وقدرة على التصدي وقتال الأعداء. وقد مرت بتاريخ بلدنا فترة طرحت فيها رسميا فكرة "مجتمع الحرب" أو "اقتصاد الحرب"، وما شابه. ولكن لا متسع للتذكير بمسارات الصراع مع العدو على المستوى العربي العام وعلى المستوى الوطني كذلك. وهذه أمور يعرفها أغلبنا.

من المرجح (عندي مثلا) أن مجرد التفكير بقبول واحد من تلك المطالب الشعبية العالية، سوف يعني فورا الدخول في الانهيار العام، إذ ببساطة، يمكن للفرد أن يبدي استعداده للتضحية بنفسه أو أولاده أو فلوسه أو بيته مثلا، ولكن من غير الجائز لأحد أن يبدي استداده للتضحية ببلده! ولكن هذا لا يعني منع رفع تلك المطالب في الشارع.

قد يسارع قارئ إلى اتهامي بأني أطالب الجميع أن يدخلوا في مسرحية! لا بكل تأكيد. أنا طالب بحق الانفعال والعمل والنضال وممارسة الصراع مع المحافظة على السيطرة الوطنية على مجريات هذا الصراع. بمعنى الانطلاق من أننا نخوض صراعنا ونمارس اختلافاتنا من منطلق الحرص على بلدنا...

ما الذي يعنيه ذلك في الممارسة؟

دعوني أضرب مثالا: إن محاولات الشباب الهجوم على سفارة العدو هي ممارسة نضالية شبابية محترمة، ولكن بالمقابل فإن قيام قوات الأمن بمنع ذلك، هي أيضا ممارسة للسلطة المسؤولة.

ينبغي في ظني، أن يسعدنا أن تكون لدينا سلطة تسيطر على حدود وطننا، لأن هذا من متطلبات وجود الأوطان.

لكن ماذا لو نجح احد بالقيام بعمل مقاوم ضد العدو؟ من المؤكد أن ذلك سيسجل كعمل نضالي محترم، ولكن قرار السماح الرسمي أو المنع الرسمي ينبغي أن يبقى بيد السلطة. بكلمات أخرى، لا يجوز مطالبة السلطة بـ"السماح" بالمقاومة لأن هذا يخل بعملها ودورها. إلا إذا قررت هي ذلك وتحملت مسؤولية قرارها. وعليها أن تتحمل المحاسبة على نتائج ذلك.

حاليا لا أفهم توتر أوساط السلطة تجاه شعارات الشارع، ربما استعاد البعض أزمان سابقة كانت فيها البلد محاطة بخصوم يضغطون لـ"استمعال" البلد، وقد كان مفهوم "الساحة الأردنية" شائعا وله زبائن في الداخل. لكني أظن ان الظروف تغيرت جذريا باتجاهات تجعل السلطة أكثر ارتياحا وثقة.

لا يجد الشارع وهو يخاطب السلطة فرصة لتقديم مقارنات مع حكومات أخرى بما يحرج حكومتنا! فالموقف الرسمي بالمقارنة في موقع متقدم. (وهذا بالإجمال أمر مؤلم على المستوى العربي العام، كنا نتمنى أن تكون حال الدول والأنظمة أفضل وأن تكون المقارنات أكثر إيجابية)

اليوم إذا استبعدنا فذلكات النخب السياسية ومظاهر انتهازيتها، من المرجح أن ما يجري في بلدنا أمر عادي ودليل على الحيوية السياسية العامة في الشأن الوطني والقومي: إن الجمهور يمارس تعاطفه بصدق ونبل، ويمارس المعارضون دورهم في الضغط، وبالضرورة فإن هذا الدور يشمل طيفا واسعا من المواقف، بعضها في غاية الوطنية وبعضها في غاية الانتهازية والرذالة.

بالمقابل، الموقف الرسمي في حالة حساسية اعتاد عليها عبر التاريخ، فهو تمرس على اتقان صياغة معادلته الخاصة، فهو يعرف نقاط قوته ونقاط ضعفه.

عيوننا ينبغي أن تبقى موجهة نحو عدونا، وقلوبنا نحو غزة ومقاومتها وشعبها، وعلى كل الأطراف أن تطور موقفها بالتناغم مع متطلبات المواجهة الدائرة، والآفاق ستبقى مفتوحة دوما، بما قد يحتمل الحرب والمقاومة. من يدري؟


تنويه.. يسمح الاقتباس وإعادة النشر بشرط ذكر المصدر (صحيفة أخبار الأردن الإلكترونية).