بداية الانكسار..؟

بداية الانكسار..؟

راكان السعايدة

انكسار "إسرائيل" في قطاع غزة ليس وهما متخيلاً، بل واقع منظور، يُستدل عليه بقراءة موضوعية لمؤشرات تخلُص إلى أن منحنى الانكسار بدأ في الاتساع والتعمق.

وقبل أن نلقي الضوء على تلك المؤشرات لا بد من التذكير بأن أهداف العدوان على غزة هي: تصفية المقاومة، وحماس بالذات، وتحرير الأسرى، وتقرير مصير القطاع.

ومؤشرات الانكسار تقاس بمقاربة أهداف العدوان المعلنة مع الواقع، أي أن قياس النصر والهزيمة يرتبطان عضويا بتحقق تلك الأهداف، ولا شيء سواها.

إذن، ما هي مؤشرات الانكسار..؟

أولاً: على مقربة من إتمام الشهر الثالث على العدوان، لم تستطع "إسرائيل" استئصال المقاومة.

ولأن أركان الحرب السياسيين والعسكريين أخذوا يصلون إلى قناعة أكيدة أن تحقيق هذا الهدف مسألة مستحيلة، فهم بدأوا يغيرون تعبيراتهم ومفاهيمهم انتقالاً من تصفية المقاومة إلى تدمير قدراتها العسكرية.

وهذا تغيير ملحوظ في الخطاب الذي يأتي أحياناً على ألسُنِ قيادة مجلس الحرب، من وزن وزير الدفاع يوآف غالانت، وإن عاد بعد تهديدات وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير بالخروج من الحكومة إلى التمسك بأهداف الحرب الأولى.

ثانياً: تحرير الأسرى، منذ بدء العدوان كان المعلن ألّا وقف للحرب قبل تحرير الأسرى، لكن "إسرائيل" خضعت ودخلت في هدنة مع المقاومة، وهي اليوم أيضاً تطلب هدنة جديدة وتقدم شيئاً من التنازلات لإتمامها.

لكن المقاومة تلتقط مؤشرات تداعي الأوضاع السياسية والعسكرية والمجتمعية في الكيان وتبني عليها استراتيجية رفض أيّ صفقة قبل وقف شامل لإطلاق النار، بمعنى وقف الحرب من ثم التفاوض وليس قبل ذلك.

ثالثاً: مستقبل غزة بعد الحرب.. بهذا الجانب فشلت "إسرائيل"، إلى الآن، في وضع تصور محدد لأوهامها وخيالاتها بأن لها اليد العليا في تصميم مستقبل القطاع وإدارته، وهي متصادمة مع قوى إقليمية ودولية حيال ذلك.

فمرة تريد السيطرة على القطاع كاملاً، ومرة تريد إدارة مؤقتة له، وأخرى أن يدار من جهات دولية، ثم تتحدث عن منطقة عازلة في شماله.

المعنى الوحيد لهذا هو أن تفكير الكيان بشأن مستقبل غزة مرتبك ومغرِق في الخيال، فالمقاومة صامدة متماسكة، والأسرى بين أيديها، وأهل القطاع ثبتوا ولم يغادروا أرضهم.

إن الخلاصة المتصلة بالنقاط الثلاث أعلاه قائمة على أن الكيان ذهب في بداية عدوانه إلى وضع أهداف مثالية للغاية، وظن متوهما أن بمقدوره تحقيقها، لكنه فوجئ بأن قدراته مهما كانت كبيرة فهي محدودة وعاجزة عن تحقيق الأهداف.

أكثر من ذلك، "إسرائيل" عالقة اليوم في رمال غزة، ودخلت إلى متاهة صنعتها المقاومة بمهنية وحرفية، تتكبد فيها خسائر كبيرة في ضباطها وجنودها ومعداتها، وحتى الآن صواريخ مقاومة غزة تطاول كل شبر من فلسطين المحتلة.

إذن، أمام المؤشرات التي تؤكد انهيار وتقويض المقاومة لمنظومة الأهداف المعنلة، فإلى متى يمكن لـ"إسرائيل" أن تصمد في غزة قبل أن تخرج مهزومة؟

عملياً، من الصعب التنبؤ بتوقيت ذلك، فالكيان يقف أمام خيار من اثنين، الأول: إما أن يواصل حربه الانتقامية التدميرية بصورتها الحالية، وهذا أضعف الخيارات.

والآخر: أن يغير استراتيجيته بالانكفاء إلى شمال القطاع ليقيم فيه منطقة عازلة "أمنة"، ويقوم بعمليات جراحية في وسط وجنوب القطاع بزخم جوي وبري أقل، وهذا الخيار الأقوى.

والذي يجعل الخيار الثاني أقوى فرصةً وأكثر احتمالاً عدة أسباب:

أولاً: تزايد القناعة في "إسرائيل" وعند حليفتها أميركا باستحالة تحقيق أهداف الحرب بصيغتها المعلنة.

ثانياً: الخسائر المتزايدة والأثمان الباهظة التي تدفعها "إسرائيل" عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وإعلامياً.

ثالثاً: الضغوط الشعبية المتعاظمة داخل "إسرائيل" لتحرير الأسرى عبر صفقة تبادل شاملة، وبأيّ ثمن.

رابعاً: تفاقم خلافات النخبة السياسية وتصاعد خطاب المعارضة الذي يحمّل رئيس الائتلاف الحكومي بنيامين نتانياهو مسؤولية الفشل المتراكم ومطالبتها إياه بالاستقالة.

خامساً: خسارة "إسرائيل" الدعم الشعبي العالمي، بل أصبح مزاجه كارهاً ومناوئاً لها، كذلك بدء خسارتها المتسارعة للأنظمة الرسمية الغربية الداعمة لها.

سادساً: الخشية الأكيدة من توسع الحرب على جبهات أخرى في وقت يتجذر الفشل في غزة، فضلاً عن تغيير كبير ادخله اليمنيون في معادلة المواجهة عبر حصار البحر الأحمر.

هذه الأسباب كفيلة بدفع "إسرائيل" إلى التسليم بأن ما كان متاحاً لها أن تفعله في قطاع غزة لم يعد كذلك، وليس أمامها أكثر من أسابيع قليلة حددتها لها أميركا لتغير طريقتها في إدارة الحرب.

وسيكون الكيان ملزماً بهذا التغيير، الذي لا يعني، أميركياً، وقف الحرب، وإنما تغيير طريقتها وكثافتها ونطاقها.

بمعنى أن أميركا تريد حرباً بطريقتها ووفقا لتصورها، لا طريقةَ وتصور بنيامين نتانياهو. وهذا في مرحلة ما قد يمهَّد له بإخراج نتانياهو وحلفاءه المتطرفين من المعادلة السياسية، بدفعه إلى الاستقالة أو إجراء انتخابات جديدة للكنيست.

ما يمكن قوله في النهاية، أن منطق التاريخ يؤكد، بصورة غير ملتبسة، أن أي مقاومة ملتزمة بعقيدتها ومبادئها، وتدافع عن أرضها وحقوق شعبها لن تُهزم ولن تنكسِر..

"إسرائيل" في طريقها إلى هزيمة مدوية، وإن تأخر ذلك بعض الوقت، ومن لا يزال يراهن على أن الكيان بإمكانه تصفية المقاومة عليه أن يراجع حساباته، ويدرك أن أميركا لا تفكر الآن إلا بكيفية إنقاذ الكيان من ورطته (...) ووقف تداعي منطقها الاستعماري..


تنويه.. يسمح الاقتباس وإعادة النشر بشرط ذكر المصدر (صحيفة أخبار الأردن الإلكترونية).