باب السياسة الموصد في غزة
الدكتور منذر الحوارات
بالحرب نشأت وعلى الحرب تعيش، هذا هو واقع الحال بالنسبة لإسرائيل فمنذ اليوم الأول لنشأتها وقبل ذلك بكثير كان طريقها الوحيد إلى الوجود هو السلاح والإرهاب وقتل الخصوم ومحاولة تدميرهم وتهجيرهم، وهذا يتكرر بعد الحدث العظيم في السابع من أكتوبر، والذي زعزع ثقة الدولة ببقائها وزعزع قناعتها بأن كل خططها السابقة في تدجين الفلسطينيين وزرع روح الاستسلام فيهم قد باءت جميعها بالفشل الذريع، لذلك كان قرارهم حاسماً بأنهم أمام خطر وجودي لا يحتمل التردد في مواجهة الخيارات المعقدة وكانت تتلخص إستراتيجيا بضرورة استعادة الهيبة وقوة الردع اللتين خسرتهما في لحظات.
هذا الطموح والهدف الكبير والذي لُخص في ثلاثة محاور رئيسة أولها القضاء على حماس والثاني تحرير الرهائن والثالث إيقاف الخطر القادم من غزة، لكن دون هذه الأهداف عقبات تكاد تكون مستحيلة، في مقدمتها قوة حماس المتمثلة في مقدرتها السحرية على الاختفاء من أمام أعين الأعداء مما يعطيها فرصة ذهبية للهجوم من مسافة صفر والاختفاء عن الأعين بسرعة البرق تحت الأرض بشبكة معقدة من الأنفاق المتشابكة، العقبة الكأداء الثانية هي ردع المدينة حيث كانت غزة القطاع والمدينة لغزاً محيراً لصناع القرار العسكري في دولة الاحتلال، فقد كانت أقبيتها وحواريها وتركيبتها السكانية المتعاضدة عنصر ردع كبيرا لقوات الاحتلال، لهذا السبب رأينا قوات الاحتلال الجوية تقوم بحملة تدمير لكل شيء يمت بصلة للحياة في المدينة، وطبقت فيها ما يعرف بطريقة جز العشب أملاً منها في أن تتخلص من الحاضنة الاجتماعية لحماس وتجعلها تثور عليها أو تهاجر خارج القطاع، وبالتالي تخسر حماس هذا العنصر، وهذا لم يحدث وليس من الواضح أنه سيحدث إذ أبدى الغزيون صموداً منقطع النظير، أما العقبة المهمة الأخرى فهي الرهائن المحتجزون لدى حماس، صحيح أن نتنياهو حاول التخلص من هذه الورقة بيد حماس باستخدام بروتوكول هنيبال، لكن وجود رهائن مزدوجي الجنسية حال دون رغبته هذه، إذ سرعان ما عادت هذه الورقة واحدة من أهم المؤثرات في اتخاذ القرارات العسكرية، وأصبحت مصدر أرق لحكومة الحرب الإسرائيلية.
لا تستطيع دولة الاحتلال الادعاء بعد شهرين ونصف من التدمير أنها حققت أيا من أهدافها المعلنة، رغم أنها تُصر صباح مساء أن الحرب مستمرة حتى تحقيق تلك الأهداف التي تأبى التحقق وحتى الهدف المخفي حيناً والمعلن أحياناً بتهجير الفلسطينيين خارج وطنهم لا يتحقق ولا يبدو أنه قابل للتحقيق بسبب مقدرة الغزيين المذهلة على فهم الأهداف الإستراتيجية لعدوهم، ورغم أن إسرائيل تتمتع بغطاء عسكري وسياسي كامل من قبل الولايات المتحدة والعالم الغربي، بينما حماس في العراء السياسي، بل تخلى عنها محورها الذي اعتمدت عليه سابقاً، وهي الآن لا تعتمد على شيء سوى قدرتها على البقاء في ساحة المعركة ومناجزة العدو بينما كل الغطاءات السياسية أصبحت خاوية بلا قيمة، هذا الوضع يجعل حماس تستميت في الدفاع عن حقها في البقاء كفصيل فلسطيني يقاتل لأجل حرية شعبه لا كمنظمة إرهابية كما تريد إسرائيل وأميركا لصق هذه التهمة بها.
لكن الملفت للنظر والمثير للدهشة أنه برغم فشل القوة الإسرائيلية في تحقيق أهدافها على الأرض، إلا أن نتنياهو يتصرف ويضع الشروط كمنتصر بدون مبرر واضح، اللهم إلا إذا اعتبر أن تدمير مدينة وقتل سكانها، وجلهم من الأطفال والنساء، وتهجيرهم انتصار، يكون فعلاً من هذا المنظور قد حقق انتصاراً مؤزراً وهذه شيم الجبناء، لقد عاد من جديد يرفض كل الحلول السابقة وينكر على الفلسطينيين حقهم السيادي في إقامة دولتهم ويرفض بملء فيه حل الدولتين ويتنصل من أوسلو وكل الاتفاقات السابقة، لقد قرر فجأة أن يعيد عجلة التاريخ إلى الوراء خمسة وثلاثين عاما، إلى الحكم المباشر للفلسطينيين وربما يعيده عقله المصاب بلوثة الحكم إلى صيغة الأرض الخالية كي يبرر لنفسه البقاء السياسي، فالبحث عن انتصار وإن كان وهمياً جعله يوصد كل الأبواب المؤدية إلى الحلول، ويحاول بكل وسيلة إطالة أمد الحرب بل ولا ضير من توسيعها إذا كان بالمستطاع، لأن كل يوم حرب إضافي هو يوم للبقاء، وكل قطرة دم فلسطينية هي أكسير لحياته السياسية، وكل بيت مهدم وشارع مكسر ومستشفى مدمّر هي الشرايين التي تمده بطاقة البقاء، لأن هذه كلها هي الوسائل التي تضخ الشعبية وتفتح طريق البقاء لأي سياسي إسرائيلي، لكن الواقع على الأرض يشير إلى أن كل هذا الصلف الإسرائيلي في طريقه للانكسار، وهذا الأمر ليس ببعيد.