هل تدافع غزة عن الأمن القومي العربي؟
راكان السعايدة
هذا السؤال كبير، وكبير جدًا، ويجب مناقشته بالجدية الكافية، بعقلانية وموضوعية، بدون تسطيح أو تبسيط، وأكثر دول معنية بوضعه على الطاولة هي دول الطوق، بما فيها العراق.
أميركا و"إسرائيل" تحدثتا صراحة، منذ بدء العدوان على قطاع غزة، عن تغيير وجه الشرق الأوسط، من دون أن تفصّلا في طبيعة الوجه الذي تريدانه.
مع ذلك، لن يصعب على العقلاء إدراك أن الوجه الجديد، إذا قُـيِّـض لأميركا و"إسرائيل" أن تغيرانه، سيكون بإحداث تغييرات جوهرية في دول، وفي أوزانها وأدوارها، وتبديل طبيعة التحالفات.
أي، التغيير المطلوب أميركيًا و"إسرائيليًا" يكون بمزيد من الهيمنة والإخضاع، بلا أي مقاومة من أي نوع أو شكل، أكان مقاومةَ دولٍ أو تنظيمات.
الأكيد أن المواجهة الراهنة بين المقاومة في غزة و"إسرائيل" مختلفة كليًا عن سابقاتها، وهي بالفعل مواجهة فارقة فاصلة، وسيكون لها آثارها العميقة في خريطة المنطقة والشرق الأوسط بأكمله، وفي قلبه أمنها القومي.
لكن تغيير وجه المنطقة لن يكون بقرار أميركا و"إسرائيل" وكأنه قدر محتوم، وإنما هو رهن بنتائج هذه المواجهة، رهن بهوية المنتصر وهوية المنكسر..
بمعنى، الشرق الأوسط ينتظر، فعليًا، وجها جديدًا.. فهل ستأتي به المقاومة أم تأتي به أميركا و"إسرائيل"؟.
إن سحق المقاومة، لا قدر الله، يعني تثبيت مفهوم المركز والأطراف وتعميقه؛ "إسرائيل" مركز، ودول المنطقة أطراف تدور في فضائها، تملي عليها ما تشاء، وتتحكم بأدوارها وهامش حركتها ونطاق نفوذها.
وتستطيع "إسرائيل" أن توظف الأطراف، في سياق الهيمنة والإخضاع، لخدمة أجندتها ومصالحها، ومصالح أميركا والغرب بعامة، وتجعلها ساحات لحل مشاكلها وتصدير أزماتها، بل ويصبح بمقدورها أن تضع على الطاولة مشروع "إسرائيل الكبرى".
لأن إنهاء المقاومة سيكون إنهاء لفكرة حل الدولتين، وتعظيم ليهودية الدولة الذي يعني ضم الضفة الغربية، وكل، أو أجزاء من، قطاع غزة، سبيل ذلك تهجير من في الضفة إلى الأردن ومَن في غزة إلى مصر.
التصدي لهذا المشروع الصهيوني يكون بهزيمة "إسرائيل" وصمود غزة ومقاومتها. وهزيمة الكيان تكون بإفشال تمكنه من تحقيق أهدافه وإلحاق أكبر قدر ممكن من الهزائم به، وسحق فكرة "الجيش الذي لا يُقهَر" وتهشيم صورة "الكيان" بوصفه الملاذ والمكان الآمن لليهود. وكذلك تعطيل الهرولة غير المبررة للتطبيع المجاني مع "إسرائيل"
وهذه، لكل ذي عقل وبصيرة، مسألة أمن قومي عربي بامتياز، وإذا لم تكن مسألة أمن قومي لكل العرب، فهي أكيدة لدول بعينها.
صمود المقاومة في غزة تمنع تصفية القضية الفلسطينية؛ فبثباتها تحمي الضفة الغربية من "التهجير القسري" والضم، وتحمي القدس والمقدسات، وتحمي غزة ذاتها، وأيضا تثبت هشاشة "إسرائيل" وضعفها.
وإذا ما توقفت الحرب عند الواقع الحالي، لن يكون لهذا الكيان ذات النفوذ والهيمنة التي صنعها بالوهم والخداع وإيهام دول في المنطقة أنه الحامي أو الذي يستطيع أن يحميها من الأخطار.
نعم، الأمن القومي لدول المنطقة أو بعض دولها، يرتبط عضويًا بمالآت ما ستنتهي إليه المواجهة في قطاع غزة، ومن يحرص على أمنه القومي عليه أن ينخرط بكل قوة لوقف العدوان.
فليس هذا وقت توصيف قوى المقاومة في غزة وتقييمها، ضارة أم نافعة، أو حليفة أم خصم، هذا تفصيل صغير أمام دفاعها عن الأمن القومي لدول مهددة في وجودها.
ولو سلّمنا جدلا بأن الدول تبني مواقفها على أساس مصالحها الذاتية، بدون أي اعتبارات للعروبة وصِلات الأخوة والدم، فالأصل أن ترسم هذه المواقف على أساس تلك المصالح ونطاق المخاطر.
أي؛ يجب أن يكون قرار هذه الدول في إطار مصالحها الخالصة، ولا تلتفت لأي مؤثرات أو ضغوطات مهما كانت ومن أي طرف كان طالما أن الخضوع لها، جزئيًا أو كليًا، سيجلب تهديدات وجودية.
نحن بإزاء لحظات فاصلة فارقة في تاريخ المنطقة، والدول التي تواجه مثل هذه اللحظات يفترض أن يكون لها طريقة عمل ونمط تفاعل مختلفين لتنجو بنفسها، حتى لو كان هناك من يبغض المقاومة ويريد التخلص منها.
إذن؛ المسألة ليست عواطف، وليست حسابات سياسية ضيقة يمكن أن تقع تحت تأثير هذا أو ذاك، هذه كلها أشياء لا يُلتفت إليها إذا ما قيست بحسابات الأمن القومي التي يفترض عندها أن تتخذ الدول قراراتها بشأنها على قواعد وأسس وطنية خالصة، لا مجاملات فيها.