الانفعالات المؤقتة خطيرة جدا
ماهر أبو طير
من أخطر تأثيرات الاعلام المعنوية، في حالات الحروب، ما يمكن وصفه بتأثيرات الجرعة التي يتلقاها المشاهد او المتابع، الى درجة تؤدي الى رد فعل من جانب كل مشاهد ومتابع.
بتنا نسمع يوميا، كلاما من الناس يقولون فيه لم يعد لدينا احتمال لنشاهد اي فيديوهات جديدة عن مذابح غزة، لم نعد نحتمل قتل الاطفال والنساء وهدم البيوت، وغير ذلك، وهذا يعني ان المشاهد او المتلقي لم يعد لديه بسبب شدة الالم اي مساحة احتمال لتجرع المزيد، وهذا امر طبيعي من حيث قدرة الانسان، لكنه خطير من حيث تأثيراته السياسية، بحيث ينفض البعض عن المشهد، وينخفض التعبير، ويهرب البعض الى شؤون حياتهم، بسبب فرط الالم، او التأثر، او الشعور بالضعف او اليأس، مع البحث عن حل من مكان ما، او في توقيت ما.
هذه الحالة حدثت في كل الحروب في المنطقة العربية، حجم شد الاعصاب والغضب والتأثر والانفعال يكون في اعلى درجاته، وقد شهدنا ذلك في حروب العراق وموجات القصف والقتل فيه، وشهدنا ذلك في سورية، وكل المذابح التي واجهها الاشقاء السوريون، حتى تحولت الاخبار والصور والتقارير بعد فترة، الى مجرد خبر معتاد، ويومي، بل ان الانظار اصبحت تركز فقط على عدد الضحايا، اذا كان قد ارتفع او انخفض، والمفارقة ان المقارنة تصير فقط بين العدد الاكبر، والعدد الاقل، بحيث بتنفس البعض الصعداء، اذا انخفض عدد الضحايا، دون ان تكون هناك قدرة على قراءة عمق الازمة، والكارثة التي يتعرض لها مستقبل هذا الشعب او ذاك.
في غزة القصة مؤلمة جدا، ويوم امس اقرأ خبرا عن ارتفاع عدد الشهداء في يوم واحد الى 700، والرقم مذهل، لكنني اتوقف مطولا عند الصياغة، لاننا اصبحنا امام عداد للشهداء، يرتفع وينخفض، ويرتبط تأثرنا الانفعالي بالارقام اذا ارتفعت تحديدا، فيما يعاني كثيرون من عدم القدرة على المتابعة بذات الطريقة الاولى لايام الحرب، بسبب الاذى النفسي، وعدم القدرة على التحمل.
الانسان العربي انفعالي بطبيعته، يغضب بسرعة ويهدأ بسرعة، لكننا امام كل قصة فلسطين، يتوجب علينا ألا نربط رد فعلنا بالصورة الحية المؤقتة في بث مباشر، او حتى بصورة عادية، او حتى بمستويات الارقام، وارتفاعها، لأن العدو بالمقابل يتلاعب بنا، وبمشاعرنا من هذه الزوايا، وهذا يفسر من جهة ثاني ان الاحتلال يستهدف الصحفيين اولا، كونهم ينقلون الصورة من حيث المبدأ العام، ويفضحون الاحتلال، ويفضل الاحتلال اخفاء الصورة كليا، وهذا جانب آخر في القصة، اي طمس الادلة والبراهين والشهادات، في محاولة لتبريد مجتمعات خارج منطقة الشرق الاوسط لا تعتمد على "الانفعال المؤقت" للتعبير عن موقفها.
في بداية الانتفاضة الاولى كنا طلبة جامعات، وشهدنا ذات التدرج، مجرد غضب شديد في البدايات، ثم بدأ بالتراجع، وكأن الانتفاضة مجرد حدث يومي، مكتوب فيها على الشعب الفلسطيني وحده ان يدفع الثمن، مع كثير من كلمات التشجيع للفلسطينيين عن بعد، للاستمرار في غضبتهم ضد المحتل، وهذا امر مؤسف لان فلسطين من حيث المبدأ لا تمثل كينونة سياسية لاهلها بالمعنى الوطني وحسب، بل تمثل ايضا جزءا من الوجدان القومي والديني.
الصورة الحية، عبر البث المباشر، او الفيديو، تحقق غايات مهمة جدا، اهمها تذكير الناس بما يجري، واستثارة الرأي العام، امام حجم الضرر والدم، لكن من مخاطرها في فنون الاعلام، انها تسبب فائضا من الالم، بحيث يؤدي ذلك في تواقيت معينة، الى اشاحة بعض من لا يحتملون الصورة لوجوههم، والتشاغل بقضايا ثانية، والتسبب بشكل غير مباشر، بمشاعر سلبية حول قوة الاحتلال الاجرامية، والاصل هنا ان نقوم جميعا، بتوظيف "الصورة في القضية وليس الحدث اليومي"، فقط، والقضية تتحدث عن معاناة ممتدة منذ وعد بلفور اي قبل 106 سنوات، من اجل اعادة صياغة موقف الجمهور، ومنع استضعافه عاطفيا، وارهاقه، وتحييده بطرق مختلفة.
هذه وجهة نظر، قابلة للتصحيح، والنقض، والتأييد، لكن اخطر ما نراه الان، ان تتحول مذابح غزة الى مجرد حدث يومي، حدث اعتيادي، حدث متوقع الكلف، ومجرد رقم يومي للضحايا، بحيث نسأل في ساعات المساء، عن عدد الشهداء فقط، والى اين وصلت اسرائيل اليوم في اجرامها.