الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية على مشرحة "طوفان الأقصى"

{title}
أخبار الأردن -

كتب عمر الرداد - شكلت عملية "طوفان الأقصى" التي نُفذت في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 محطة فارقة في المواجهات العسكرية بين إسرائيل وقوى المقاومة الفلسطينية، ومن المؤكد أنّها سترتب على إسرائيل واقعاً جديداً يتطلب إعادة النظر في عقيدتها ومنظوماتها العسكرية والأمنية، لا سيّما أنّ المقاومة الفلسطينية ضربت، عبر "طوفان الأقصى"، عميقاً بوسائلها المحدودة وتكتيكاتها البسيطة معايير ومرتكزات النظرية العسكرية والأمنية الإسرائيلية، بما فيها من مفاهيم القوة والضعف، فقد كانت عملية المقاومة من منظور إسرائيلي أشبه بتسونامي تجلّى بارتباك وصدمة في المجتمع الإسرائيلي بمستوياته؛ المدنية والعسكرية والأمنية، وهو ما انعكس بارتباك في الدوائر الضيقة لصناعة القرار العسكري والأمني.

من المعلوم أنّ الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية ما زالت تقوم على (3) ركائز، وهي: الردع، والإنذار المبكر، والانتصار الحاسم والسريع، ولا شك أنّ الحرب الدائرة في قطاع غزة شكلت ساحة لإعادة فحص هذه الركائز الـ (3)، وأظهرت أوجه القصور وعدم فاعلية هذه المرتكزات، فعلى صعيد ركيزة الردع، وجوهرها إظهار التفوق العسكري كوسيلة لمنع المقاومة من القيام بأيّ تحركات، فقد انهار  هذا المفهوم عبر الفشل  بإلحاق الضرر بالمقدرات التنظيمية للمقاومة، بما في ذلك مراكزها القيادية ورموز قادتها العسكريين والسياسيين.

ثلاثية الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية القائمة على الردع والإنذار المبكر والانتصار الحاسم والسريع أصبحت أمام امتحانات صعبة، ربما لم تظهرها فقط حرب "طوفان الأقصى"، بل إنّها بدأت مع حرب إسرائيل ضد حزب الله اللبناني عام 2006

أمّا ركيزة الإنذار المبكر، التي تقوم على استخدام أنظمة متطورة للرصد والاستطلاع، وباستخدام وسائل وتقنيات استخبارات بشرية وتكنولوجية للكشف عن أيّ تهديدات محتملة، والتعامل معها قبل حدوثها، فقد منيت هذه الركيزة بفشل ذريع لعدم فاعليتها في التنبؤ بهجمات "طوفان الأقصى"، حيث استندت تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية إلى مؤشرات خاطئة تستبعد احتمالية قيام حركة حماس بأيّ تصعيد، في ظل تركيزها على إنجاز صفقة تبادل أسرى بوساطة مصرية، وتخفيف الحصار على قطاع غزة في ظل أوضاع اقتصادية تتفاقم يوماً بعد يوم، ومع مرور أكثر من شهر ونصف على انطلاق الحرب، فإنّ الركيزة الثالثة، وهي تحقيق الانتصار السريع والحاسم، والتصريحات الإسرائيلية التي تؤكد أنّ الحرب ستكون طويلة الأمد، وقد تستمر لعدة أشهر، تؤكد سقوط هذه الركيزة الاستراتيجية.

لا شك أنّ ثلاثية الردع والإنذار المبكر والانتصار الحاسم والسريع أصبحت أمام امتحانات صعبة، ربما لم تظهرها فقط حرب "طوفان الأقصى"، بل إنّها بدأت مع حرب إسرائيل ضد حزب الله اللبناني عام 2006، وهي المعروفة بحرب تموز (يوليو)، لا سيّما أنّ هناك تقاطعات كبيرة بين الحربين، ليس لجهة الأهداف والسياقات، بل لجهة الاستراتيجيات والتكتيكات العملياتية الحربية، وذلك باعتماد أساليب حروب العصابات من قبل المقاومة والقتال في مناطق مأهولة بالسكان، واعتماد أسلحة خفيفة، وربما بعضها بدائي، والتركيز على الالتحام مع الخصم، وهو ما تم في حرب "طوفان الأقصى"، فيما أصبح يعرف بالقتال من المسافة صفر.

معضلة الاستراتيجية العسكرية والأمنية الإسرائيلية أنّها بنيت من منظورات تقدير لطبيعة وتشكيلات الخصوم والأعداء بوصفهم ينتظمون في جيوش نظامية تتبع لدول، لها تشكيلات عسكرية معروفة كسلاح المدفعية والطيران والمشاة، والتي تستخدم آليات من دبابات وناقلات جند وطائرات ومنظومات دفاع جوي، بالإضافة إلى تشكيلات الاستطلاع والاستخبارات التي تعمل على جمع المعلومات عن الخصوم واكتشاف نواياهم وخططهم العسكرية، لبناء خطط عسكرية مضادة لها. ولا شك أنّ هذه العقيدة القتالية الإسرائيلية، وما تولد عنها من استراتيجيات، قد حققت نجاحات بهزيمة الجيوش العربية النظامية في الحروب العربية الإسرائيلية، فتلك الحروب جميعها تمّت مع جيوش نظامية وفي مناطق غير مأهولة، وفي اختلال موازين القوى لصالح الجيش الإسرائيلي المتفوق عسكرياً، والمدعوم بأحدث الأسلحة الغربية، وربما الأهم من ذلك أنّ ساحات تلك الحروب جرت في مناطق خارج المدن، بالصحارى والغابات والجبال والوديان، وقلما كانت حروب مدن إلا في مناطق محدودة جداً.

عملية "طوفان الأقصى"، من زوايا التحليل العسكري والأمني، تطرح تساؤلات عميقة حول مفاهيم الاحتلال والتحرر والحركات الوطنية، ومفاهيم الإرهاب وإرهاب الدولة، إلى جانب مفاهيم حقوق الإنسان والقانون الدولي والإنساني.

ورغم ذلك، لا يمكن القول إنّ الاستراتيجيات العسكرية والأمنية الإسرائيلية سقطت بالكامل، رغم الهزة العنيفة التي تعرضت لها في "طوفان الأقصى"، وما نتج عنها من "تهشيم" لصورة الجيش الأسطوري الذي لا يُقهر، إذ ما زال هذا الجيش يملك قدرات عسكرية، وتفوقاً تمكن معه من تحقيق أهداف أخرى باعتماد مقاربات الأرض المحروقة، وهو ما يفسر هذه الوحشية في تدمير المنازل والمستشفيات والمدارس، بعد إنتاج سرديات بأنّ المقاومة تستخدم هذه الأهداف في إدارة عملياتها العسكرية، وبوصفها جماعات إرهابية، وهو ما لم يوفر لإسرائيل غطاءات كافية لتبرير تلك الاستهدافات، لا سيّما بعد فشلها في تقديم أدلة على تلك المزاعم بعد اقتحام بعض المستشفيات.

عملية "طوفان الأقصى"، من زوايا التحليل العسكري والأمني، تطرح تساؤلات عميقة حول مفاهيم الاحتلال والتحرر والحركات الوطنية، ومفاهيم الإرهاب وإرهاب الدولة، إلى جانب مفاهيم حقوق الإنسان والقانون الدولي والإنساني، وشرعية القتل والحصار ومنع الدواء والغذاء، وتطبيقات قوانين العدالة الدولية، وبالتزامن تطرح مفاهيم الحروب الجديدة والقتال مع مجموعات وتشكيلات ما يُعرف بأقلّ من الدولة، ودور تكتيكات الحروب التقليدية في تحقيق نجاحات وانتصارات على تلك التشكيلات، إذ تفقد الدبابات والصواريخ والمدافع كثيراً من وظائفها، إلا بحدود التدمير الشامل، وربما سينكشف الكثير من أسرار هذه الحرب من قبل إسرائيل، في إطار تقرير تقييم على غرار (فينوغراد) الذي أعلن بعد حرب تموز (يوليو) عام 2006.

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير