العرب وغزة.. تعاطف أم إيمان؟
موفق ملكاوي
فارق كبير بين أن تتعاطف مع قضية ما، وبين أن تؤمن بعدالة تلك القضية وطهارتها وحتمية انتصارها، وأن تؤمن أيضا، بأنها قضيتك التي تعيش لأجل يوم تراها فيه ظاهرة على جميع من غدروا بها وبأهلها.
في الأسابيع الأخيرة التفّ الشارع العربي من جديد حول قضية فلسطين، وتفاعل مع شلال الدم الذي سببته الإبادة الجماعية على يد العدو المجرم. رأينا القضية الفلسطينية تتصدر من جديد الوجدان العربي، والخبر الفلسطيني يقفز ليحتل الصدارة. لكن هذا التوجه المفاجئ للاهتمام العربي قد لا يكون مؤشرا صحيا إذا ما أعدناه إلى عوامله الأساسية، وهي آلة القتل الوحشية التي انتهجها الصهاينة ضد الفلسطينيين، وبذلك يتساوى العربي، الذي يفترض أن يكون صاحب القضية، مع شعوب العالم المختلفة التي خرجت بالملايين احتجاجا على الإبادة، وتعاطفا مع الضحية.
من الزاوية نفسها، يمكن أن نقرأ موقف الشارع العربي على أنه تعبير عن الإدانة والرفض، وتأكيد على الوقوف إلى جانب غزة وأهلها في هذه المحنة الكبيرة. إذن هو تعاطف لسبب، واحتجاج بسبب، وبهذه الحالة يصبح تحركا مشروطا أو موسميا، أو انتقائيا، لكنه لا ينبع من حقيقة أن فلسطين هي قضيتنا، ويفترض أن تكون مطروحة على ضميرنا في كل لحظة من اليوم.
الاحتلال يمارس القتل في جميع الأيام، وعلى مدى أكثر من 75 عاما، ويسرق الأرض الفلسطينية لبناء مستعمرات يتم تسمينها يوميا، ويضع المخططات المعلنة للاستيلاء على القدس بما فيها المسجد الأقصى الذي يصرح بأنه سيقوم بهدمه من أجل بناء هيكله المزعوم على أنقاضه. على مدار الساعة يقوم الصهاينة بالتخطيط والتنفيذ، ويغيرون جميع المعالم على الأرض، لكننا لا نرى الجمهور العربي يحرك ساكنا تجاه هذه الأحداث الخطيرة، بينما بعض السلطات الرسمية تكتفي بإصدار بيانات إدانة سريعة مكتوبة سلفا لمثل هذه الأحداث اليومية، وبعضها الآخر لا يكلف نفسه عناء إصدارها حتى.
إذن، نحن لا نتصرف كأصحاب قضية مؤمنين بعدالتها وحتمية انتصارها، بل كمتعاطفين مع هذه القضية، ورافضين للقتل بهذه الوحشية وهذا العدد الضخم، بينما كان يمكن لنا أن "نتواطأ" ونغض الطرف عن "عدد معقول من القتلى" قد "لا يثير الهلع"، كما هو حاصل فعليا في جميع أيام السنة!
وعليه، فنحن لا نتبنى القضية بوصفها أساسا ليومنا، بل ندين "حدثا عارضا" فيها، فنلجأ إلى خيارات عديدة للتعبير عن الإدانة، ومن ضمنها المقاطعة الاقتصادية للشركات الداعمة للكيان العنصري، لننضم إلى ساحات كثيرة تبنت الخيار، ولكن ما إن تخفف آلة القتل من أعداد ضحاياها حتى نرى المقاطعة تتهاوى تدريجيا، وصولا إلى نهاية تامة، لنعاود من جديد حياتنا بطبيعية نحسد عليها، فيما المحتل يمارس هواياته المعتادة بمصادرة الأراضي وبناء المستعمرات، والقتل أيضا، ولكن بـ"أعداد معقولة" لا تثقل ضميرنا.
أيها الأعزاء، فلسطين ليست قضية موسمية، والتعاطف معها من باب "حجم القتل اليومي" مرفوض، فهو يؤسس لفصل منهجي عن كونها أساسا في حياتنا. إن دورنا ينبغي أن يتعدى التعاطف نحو العمل اليومي لإبقاء فلسطين قضية حية في الوجدان والشارع والإعلام. من المهم أن نجر وعي العالم كله لكي ينتبه إلى المذبحة المتصاعدة منذ عقود، وأن نجعلهم ينخرطون في حركة عالمية ضد الاحتلال وجرائمه. من المهم أن نطور وعيا خاصا، وأدوات مقاومة جديدة، وعلى جميع الصعد؛ سياسية واقتصادية وثقافية، من أجل إبقائها حية في الضمير العالمي، ومن أجل التأثير في سياقات هذه المعركة الممتدة.
لقد أدت بعض المنعطفات الدراماتيكية إلى التأثير سلبا في النظرة العربية إلى الصراع وطبيعته، وخصوصا تفاهمات أوسلو وتداعياتها الكثيرة، والتي حاولت حصر الصراع مع العدو بالجانب الفلسطيني. ولكن، وحتى بعد 30 عاما من هذه المسرحية المؤلمة، حافظ الفلسطينيون على زخم المواجهة منذ مطلع الألفية الجديدة، حين خاضوا انتفاضة ثانية، تلتها مواجهات قوية مع الأعداء، سالت خلالها دماء زكية كثيرة.
لقد أنجز الفلسطينيون استدارتهم المطلوبة بعد سنوات قليلة من الوهم والتيقن من عقم خيارات السلام مع عدو يلغي وجودهم منذ الأساس، وطوروا في طبيعة المقاومة ووعيها وأدواتها، واليوم مطلوب منا أن ننجز نحن استدارتنا المطلوبة، وأن نعيد فلسطين أولوية في حياتنا، فنحن لسنا ضيوفا على هذه القضية، بل نحن أصحابها.