الاخبار العاجلة
إسرائيل إذ تصعد الشجرة..

"إسرائيل" إذ تصعد الشجرة..

راكان السعايدة

حتى الآن، يصر رئيس وزراء "إسرائيل" بنيامين نتانياهو وأركان حربه على تحقيق هدف استراتيجي ثلاثي الأركان: القضاء على حماس، غزة منزوعة السلاح، سيطرة أمنية عليها.

هذه أهداف مثالية للغاية، وفي يقين نتانياهو أن تحقيقها مسألة تقارب المستحيل، وأميركا نفسها أكثر يقينًا بأن هذه الأهداف ممكنة نظريًا، لكنها مستحيلة التحقق واقعيًا لأسباب موضوعية.

ولأن نتانياهو يعي مثالية أهدافه، فهو يكرر، في كل مناسبة: "وضعت الأهداف لكنني لم أضع جدولًا زمنيًا لتحقيقها"، وحتى وزير دفاع حكومته يوآف جالانت لطالما أكد أن الأمر قد يستغرق وقتًا طويلًا، وربما عامًا كاملًا.

بمنطق الأشياء، الحروب لا تخاض بهذه الطريقة الفوضوية وغير الواقعية، التي لا تدل إلا على مأزق  وإرباك شديدين، وأزمة مستفحلة داخل مستويات القرار في "إسرائيل" بعد فشل التنبؤ بخطوة حماس، واحتمالات توسع الحرب شمالًا مع حزب الله.

ماذا يعني ذلك..؟

ذلك يعني أن العدوان على قطاع غزة يقوم على سببين مركزيين: الأول انتقامي بامتياز بعد ضرب صورة الكيان وهيبته وقوة ردعه، وبالتبعية نفوذه وهيمنته، والآخر: شخصي، لأن المستويات القيادية ذات الصلة متأكدة ان حياتها السياسية انتهت ولم يبق إلاّ انتهاء الحرب لطيّ صفحتهم.

وهذا المنطق، منطق القرار الذي يقوم على دوافع الانتقام والأسباب الشخصية، يستجلب، حتما، بذور الفشل، لأن ردودًا انتقامية وشخصية كهذه عادة ما تعبّر عن حالة انفعالية لا تعي المالآت ولا تدرك النهايات.

أي أنّ "إسرائيل" اتخذت قرار الحرب على خلفية انتقامية وشخصية، ولا تعلم كيف تنهيها، وهي الآن عالقة إذ تعتلي شجرة، البقاء على رأسها صعب، والأصعب النزول عنها من دون نصر يعوض فشل 7 تشرين أول.

ولسبب أن المسألة برمّتها قائمة على الانتقام والحسابات الشخصية، فلا تتوافر شروط موضوعية تمكّن "إسرائيل" من اقتناص الفرصة الراهنة للتخلص من سكان غزة بتهجيرهم إلى سيناء المصرية، فهي لا تستطيع بحكم الرفض المصري والأردني، وتاليًا العربي، لهذا المخطط، وقد سمع وزير خارجية أميركا جوابًا رافضًا ونهائيًا من القاهرة وعمّان عندما فاتحهما بهذا الأمر.

كما لا تتوافر مثل هذه الشروط لإنفاذ أيٍّ من السيناريوهات أو الخيارات التي أعدتها وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، التي مسألة التهجير إحداها كخيار ثالث، فضلا عن خيارين آخرين، الأول: بقاء سكان غزة وإسناد الحكم للسلطة الفلسطينية، والثاني: بقاء السكان في القطاع واستحداث سلطة عربية محلية.

بالمناسبة، نتانياهو ومستويات سياسية أخرى قللت من أهمية هذه الخيارات عندما تم تسريبها، وقالت إن ورقة الاستخبارات مثلها مثل أوراق أخرى يتم إعدادها، لكن من الناحية الواقعية فكل ما يقدم إسرائيليًا الآن يدور في فلك هذه الورقة، مثال ذلك طلبها تغيير المناهج التعليمية في غزة وبخاصة تلك التي تعادي "إسرائيل"، وهي مسألة أشار إليها نتانياهو بوضوح عندما قال لن تكون هناك سلطة مدنية تعلم الأولاد كراهية "إسرائيل".

بالمجمل، فإن تناقضات نتانياهو لا حصر لها، فهو مرة يؤكد أن "إسرائيل لا تريد احتلال قطاع غزة وحكمها، ومرة يؤكد عكس ذلك تماما.. أي أنه لا يملك تصورات متماسكة ونهائية لتوقعاته التي أصلًا لن يكون لها حظها من النفاذ في القطاع.

ما نريد قوله هنا، وفي السياق أعلاه، التالي:

أولًا: إن "إسرائيل" تحتاج بالفعل بعض الوقت كي تدرك مثالية أهدافها، ومن ثم تبدأ بترشيدها، وتتواضع قليلًا في جدولها الزمني داخل القطاع، وسيكون الرأي العام العالمي الضاغط على أنظمة الغرب سببًا في تبدلات المواقف كما رأينا في الموقف الفرنسي، والتممل غير المعلن داخل البيت الأبيض وعموم مستويات القرار في الإدارة الأميركية، وتعالي أصوات أوروبيةرسمية تدعو لوقف الحرب.

فالرأي العام في الغرب له قيمة وأثر، خصوصا وأنه يزداد انحيازًا إلى قطاع غزة أمام الإجرام والإبادة والفتك بالقطاع على يد جيش الاحتلال وقوته التدميرية، ومهما حاولت الحكومات الغربية المنحازة لـ"إسرائيل مقاومة ضغط الشارع فلن تصمد طويلًا وستضطر للأخذ به، وتبدأ بعكسه على الاحتلال لوقف حربه.

ورغم أن "إسرائيل" ترغب في أن تحرر أسراها بقوتها الاستخبارية والعسكرية من دون صفقات وتنازلات، وكجزء من صورة نصر، إلا أن هذه الرغبة مستعصية، ولا سبيل، كما يبدو، من تجنب الخضوع لصفقة تبادل وهدنات، لكن هذه الصفقة قد تكون سببًا في كسر موجة الحرب الإجرامية الحالية، وتؤسس لبدء مستويات قرار الكيان بمراجعة أهدافها.

والصفقة بذاتها يمكن اعتبارها انتصارًا إضافيًا للمقاومة مهما حاولت "إسرائيل" نزع الدسم منها.

وللنزول عن الشجرة يُتوقع أن تبحث "إسرائيل" عن صورة نصر ولو زائفة تقوم بتصنيعها في الذهنية الإسرائيلية، فمثلًا؛ الإعلام الإسرائيلي يصور الآن أن مجمع مستشفى الشفاء وكأنه جوهر المعركة وهدفها، ويمكن أن نفهم من ذلك أن سيطرة الاحتلال على المجمع قد يكون صورة النصر التي تريدها، كما يسوّق هذا الإعلام ويردد اسم رئيس حركة حماس في غزة يحيى السنوار كهدف..

مع وضعنا بالاعتبار أن الذهنية الإسرائيلية قد تنتهي إلى اقتناص اللحظة وتحاول تفريغ شمال قطاع غزة من سكانه ودفعهم إلى الجنوب لتستطيع تشكيل منطقة عازلة في الشمال، وهذه صورة من صور النصر التي قد تنتهي وتتهاوى إليها الأهداف المستحيلة التي رسمها نتانياهو وتتمسك بها "إسرائيل" للآن.

طبعا  في المرحلة الحالية، لا يجب توقع توقف الحرب سريعًا، لأن ظروف التوقف لم تنضج بعد في ذهن القيادة الإسرائيلية، وهم سيشترون أطول وقت ممكن، ويقاومون الضغوط الدولية حتى تنضج الأسباب المرتبطة عضويًا بجبهتهم الداخلية وللافلات من تداعيات فشل 7 تشرين أول.

ثانيًا: حماس فكرة وحركة متجذرة في بنية مجتمع قطاع غزة ولا يمكن بأي حال من الأحوال استئصالها أو القضاء عليها، وهي ليست كيانًا وافدًا إلى القطاع حتى يمكن اقتلاعه.

وحتى لو نجح الاحتلال بإضعاف الحركة، فهي قادرة، بالتجربة العملية، على إعادة بناء نفسها مرة أخرى، وبصورة أكثر نضجًا وأعمق خبرة وأكثر قوة، وأي رهان على انقلاب أبناء غزة على الحركة هو محض خيال لا يمتّ إلى الواقع بِصلة.

وعلينا هنا، وهنا تحديدًا، أن ندرك ونعي مسألة غاية في الأهمية، فمن حيث المبدأ هذه حرب غير متكافئة، ولا يجب تصورها كحرب تقليدية بين جيشين متقابلين ولديهما نفس الإمكانات ولو نسبيًا.

بمعنى، حتى لو افترضنا جدلًأ أن "إسرائيل" احتلت كامل قطاع غزة، شماله وجنوبه، فهي لن تسيطر عليه إطلاقًا، ولا يمكن اعتبار احتلالها للقطاع نصرًا نهائيًا، بل غرقًا مكلفًا، لأن المقاومة ستبقى وتستمر وهي تحضرت لهذا السيناريو، وتثبت لنا يوميا أنها متحضرة ومتحسبة له.

والمحللون الإسرائيليون ذاتهم يؤشرون إلى ذلك في إعلامهم، وقيادة الحرب تؤشر أيضا إلى الصعوبات التي يواجهها جيش الاحتلال في الميدان..

لهذا لا يجب أن نبني تصوراتنا وتوقعاتنا لما يجري في القطاع من منظور الحرب التقليدية، لأن ذلك بعيد كل البعد عن الواقع وعن منطق وطبيعة الحروب غير المتكافئة.

في المحصلة.. طال الوقت أم قصُر، "إسرائيل" ستخرج من غزة مرغمة ومحملة بخسائر هائلة وأكلاف باهظة، وتزداد حال دخل حزب الله في المعركة..


تنويه.. يسمح الاقتباس وإعادة النشر بشرط ذكر المصدر (صحيفة أخبار الأردن الإلكترونية).