وما زال الضمير غائبًا

{title}
أخبار الأردن -

الأب رفعت بدر

وما زالت البشرية مسمّرة على شاشات التفلزيون تشاهد إبادة شعب، في بث حيّ ومباشر، ويندى الجبين لمرأى الأطفال يصرخون وليس من معين. وبينما أكتب هذه الكلمات في الطائرة، وأصغي إلى ضحكات الأطفال المرافقين لأهاليهم في رحلات قد تكون ترفيهيّة أو للعمل أو لزيارة أهل، فأصغي في قرارة النفس إلى بكاء أطفال غزة الذين تغيب عنهم مظاهر الحياة الجميلة وأهمّها اللعب والهدوء والجو العائلي المريح والمدارس... ويحزّ في النفس عالميا في هذه الايام، أنّ الغائب الأكبر هو... الضمير. وهو أصلا من الكائنات غير المرئيّة، لكنه يملك ما لا تملكه جيوش تغير على طمأنينة الناس بحرًا وبرًا وجوًا.

وأعود أكثر من ربع قرن إلى الوراء، حيث كان الأب الراحل رمزي نعمة يعلمنا في بيت جالا اللاهوت الأدبي، ومنه مساحة خاصة وطويلة لكلمة الضمير. واستذكر أنه قال بأنّ هنالك خلوّا كاملا في اللغة العبريّة لكلمة الضمير، ويخلو منها الكتاب المقدس بعهده القديم، ويستعاض عنه بتعابير الروح أو النفس أو القلب. أما في الجديد فيستخدمها القديس بولس عدة مرّات في رسائله، بينما السيد المسيح استخدم كلمات تدّل عليه كوازع داخلي ودافع للخير: وهي الباطن والقلب والعين. فيقول إنّ «سراج الجسد هو العين، فإن كانت عينك سليمة، كان جسدك كله سليمًا». وهكذا هو الضمير إن كان سليمًا وصحيحًا معًا في آن، كانت حياة الإنسان كذلك، أو إن كان ضميرًا فاسدًا كانت السيرة كلها فاسدة.

والضمير باللغة اليونانية Syneidesis. وتعني الاعتراف الداخلي بالاثم. وهو صوت الله في داخل الإنسان، ويساعده على معرفة الخير واتباعه، وعلى معرفة الشر وتجنبه، وعلى الشعور بالذنب في حالة مخالفة القانون أو الاتيان بخطيئة معيّنة. وقد جاءت الكلمة اللاتينية Conscientia لتعبّر عن هذه » المعرفة الداخلية » بالخير والشر. وتعلم الكنيسة أنّك اذا اردت أن تراجع نفسك وتحاسبها عمّا فعلت في الماضي، فعليك أن تقوم بفعل «فحص ضمير» صريح و عميق، لترى أين نجحت واين أخفقت.

سقت كل ذلك لأقول: أين هو هذا الرائع.. أي الضمير؟ الذي يقول عنه الايطاليون بأنّ » الضمير المرتاح هو وسادة ناعمة»، وهو الذي يجعل الإنسان ينام مرتاح البال وهانئًا مطمئنًا، بينما من يؤنبه ضميره، فيقلق في الليل ولا يجد إلى النوم سبيلاً.

إلا أنّ من ايجابيات هذه الأيام استيقاظ ضمير الشعوب في كلّ أنحاء العالم، بعد ما أصابه الكثير من النعاس والنوم، وحتى العماء (عوده إلى تشبيه السيد المسيه له بالعين). إلا أن الضمير الحيّ واليقظ والفاعل والمرهف والحساس لدى قادة الشعوب ما زال نائمًا، ولم تستطع منبهات العالم أن توقظه، لا بل أنّ الضمير المنحرف قد جعل أعمال القتل والتخويف عملاً مقدّسًا. وقد قال السيد المسيح يومًا، «سيأتي يوم يظن بأنّ من يقتلكم إنما يقدّم ذبيحة لله».

وما كان الله تعالى يومًا موافقًا على القتل، لا باسمه ولا باسم أية قيمة أخلاقيّة. لذلك صرخ البابا فرنسيس من شباك مكتبه الأحد الماضي، «باسم الله، أرجوكم أوقفوا النار»، وفي ذات النهار جاء صدى لهذا الضمير صراخ الطفل إيليا الطرزي، من قلب كنيسة العائلة المقدسة، مصليًا وقائدًا للصلاة وسط الظلام الدامس في وسط الكنيسة. وبينما كانت الصواريخ تنهال في الخارج، صلى – بل صرخ–المصلون خلف إيليا: نجنا اللهمّ من الشرير. والأهم من ذلك: نجنا من موت الضمير. وسيبقى صوت الطفل ايليا الحامل اسم النبي ايليا أو الياس المولود عندنا في عجلون، مجلجلا، وداعيا الى ألا يستسلم العالم الى واقع مفروض مات فيه الضمير، لأنّ في ذلك موتا للانسانية كلّها، ازاء جرائم حرب ترتكب بم بارد وبضمير غائب.

أيّها الضمير... اصحَ...

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير