أخبار الأردن -
رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري
أكتب هذه الكلمات وأنا أتابع انتحار حضارة العالم المتحضر في غزة: انتحار قانونه الدولي، وميثاق حقوق إنسانه الذي أقره المنتصرون بعد الحرب العالمية الثانية.
غزة وإنسانها وكائناتها، لا يقتلون في هذه اللحظات في حرب عادية، بل يبادون بأعتى أسلحة الدمار الغربي التي عرفها الإنسان، والتي حرمها بقانونه الدولي: يسحق بشر غزة، وعائلاتها، وعمرانها وهواؤها وبحرها: يجوع الناس ويعطشون، وتدك بنايات وبيوت وأبراج سكنية على رؤوس ساكنيها؛ تمسح أحياء عن بكرة أبيها؛ وتقصف المستشفيات ورجال الإنقاذ والدفاع المدني والأطباء، بلا قوانين حروب أو إنسان أو ضمائر؛ ويهدد الأمين العام لأمم العالم المتحدة، فقط لأنه حاول توصيف ما يحدث من جريمة كارثية.
كل هذا حدث ويستمر في الحدوث أمام أبصارنا وضمائرنا، منذ نحو أربعة أسابيع مرشحة للتطاول.
لماذا..؟
لأن السابع من تشرين الأول (أكتوبر) لهذا العام، جاء على غير عادته من التكرار المحلي والإقليمي والدولي على حين غفلة منا جميعا، وفاجأ أصدقاءه قبل أن يفاجئ أعداءه، وفي أصغر وأكثف بقعة مأهولة في الدنيا، وأكثرها معاناة وفقرا وجوعا وحرمانا وظلما، وفي أحشاء أعتى ترسانة عسكرية للوجود الغربي خارج الولايات المتحدة الأميركية؛ إسرائيل.
ولعل من أول تداعيات هذا (الأكتوبر)، هو التكشف السافر لوجه الغرب الأميركي وتابعه الأوروبي، وسقوط كثير من القوانين والعناوين المتعلقة بالحروب وحماية المدنيين وحقوق الإنسان والأطفال والنساء، واختصار جوهر القضية الفلسطينية في سؤال ساذج وخاطئ يقول: من بدأ العدوان في 7 أكتوبر؟! مطالبين العالم والمظلومين بإقفال العقل والنفس والروح عن 75 عاما من العدوان المتواصل على شعب أعزل ومحاصر في أبارتهايدات عنصرية كريهة ومقيتة.
أما عرب الزمان المعاصر، الرسميون، فسائرون في تبعيتهم وعجزهم السياسي والفكري والإنساني إلى مديات لم يعد يصدقها ناس المنطقة العاديون، على الرغم من وصول نيران اللهيب والتلاشي إلى أثوابهم الشخصية والداخلية.
لا أريد لكلامي أن يسترسل في تصوير حدود فجيعة الحال السياسية العربية. بل يعنيني أكثر أن أحاول رسم ملامح ما صنعه هذا (الأكتوبر) الفارق في دنيا العرب، راهنا ومستقبلا، لعل أحدا يرى معي ما أرى، وبعيدا عن أي عاطفة أو شعبوية أو أوهام.
أولا: بتمكن فتية آمنوا بربهم ووطنهم وأمتهم من اقتحام المستعمرات الصهيونية المقامة على أرض آبائهم، واقتحام مركز قيادة فرقة المنطقة العسكرية الجنوبية المدججة بالتكنولوجيا المسلحة؛ بتمكنهم ذاك، حدث، ومن دون مبالغة.
إن فكرة إسرائيل، كوطن قومي آمن ليهود العالم، بدت هشة وغير قابلة للحياة ، وهو انهيار أحس به من زرعوا هذا الكيان في منطقتنا منذ نحو مائة عام، وقبل أصحاب الكيان نفسه. فتحركت حاملات الطائرات والبوارج الحربية لحماية الفكرة قبل حماية أصحابها.
ثانيا: وفي بطن تلك الطائرات المسلحة وحاملاتها، توافد حجيج الرعاة إلى ثكنتهم العسكرية في فلسطين المحتلة، على هيئة رؤساء للولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، وتوابعهم، وهؤلاء هم الدول الاستعمارية التي سيطرت على مقادير العالم، مختبئين تحت شعارهم الأبدي الأثير: (حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها)؛ وفي الأثناء، تهشمت كل القيم المتحضرة والإنسانية، التي أنتجها الغرب على هيئة قوانين، وضربت بعرض الحائط، أمام هول صدمة وترويع الدولة الثكنة التي رعوها وما يزالون منذ عقود طويلة.
ثالثا: أما في دولة العدوان نفسها، فقد أخذ الانهيار شكلا أكثر وضوحا، وعلى نحو لم يحدث من قبل: خلافات وتلاوم وإرباك بين كل مستويات القيادة العسكرية والسياسية. ونزوح نحو نصف مليون من جوار غزة، ومن مستوطنات الشمال، نحو أماكن آمنة في النقب وإيلات. وصعوبة في تجنيد الاحتياط، ورفض وتمرد للتجنيد في بعض المواقع، وتصاعد وتيرة سؤال جدوى الحرب، مع تأزم قضية الأسرى والمحتجزين.
رابعا: وكان على الغرب، صاحب المصلحة الأولى بوجود دولة العدوان تلك، أن يحمي ويطمئن، وأن يتدخل بشكل عسكري مباشر؛ وكان أول التدخل هو حماية دولة العدوان من نفسها، ومن قادتها، فأزيحت ديمقراطيتها المزعومة جانبا، وفرض الأميركي عليها مجلس حرب، يكون فيه من يمثل رؤية السيد الأميركي فاعلا ومؤثرا.
خامسا: حضور أميركي في مجلس حرب، بغرض ضبط ومنع دولة العدوان من المغامرة والمخاطرة بكل مصالح الغرب في الإقليم والمنطقة؛
وحتى اللحظة، ما يزال مجلس الحرب هذا فوق كل حكومة وقيادة في إسرائيل. وما تزال قدرته على التحكم في تدحرج الكارثة على الأرض محدودة، ومن دون أهداف واضحة وقابلة للتطبيق، باستثناء التدمير الهمجي المتحلل من كل القوانين والقيود والمعايير؛ ولا بد من التسجيل هنا بأن هذا غير مسبوق في تاريخ القضية الفلسطينية، ولم يحدث منذ العام 1948.
في الجانب الآخر- ويا للمفارقات، فقد تدحرجت خسائر إدارة الأزمة إلى داخل الولايات المتحدة نفسها، وإلى الغرب الأوروبي المذعور. فتهاوت مصداقية الإعلام هناك، وتهاوت السياسة والدبلوماسية معا، وتهاوت مصداقية الزعماء، وشعاراتهم وكلامهم، أمام ما يراه الأوروبي والأميركي العادي من هول المجازر والمذابح للأطفال والنساء والعمران والحياة في غزة، ناهيك عن القيم والقوانين الإنسانية التي تشكل محتوى ثقافة الناس العاديين هناك.
ولعل أبشع أشكال الانتهاك التي توافق عليها قادة دولة العدوان ورعاتها في الغرب، هو الحديث العلني، ومن دون حياء، عن التهجير القسري لسكان غزة والضفة الغربية، وما طلبه الرئيس الأميركي (جو بايدن) من الكونغرس من اعتماد مالي لتمويل ذلك التهجير، ما يعني تهديدا سافرا ووقحا ومباشرا للأمنين الوطنيين المصري والأردني، ناهيك عن كارثيته للشعب الفلسطيني نفسه. وهو ما تبجح به علنا أكثر من مسؤول غربي وإسرائيلي.
أما العجز العربي والدولي، الأكثر فداحة، فقد تمثل بالقصف الإسرائيلي لمعبر رفح وإغلاقه والتحكم به، بكل ما يعنيه ذلك من انتهاك للسيادة المصرية، إضافة إلى إغلاق الاحتلال، من جانب واحد، في اليوم الأول للحرب، لكل الجسور والمعابر التي تربط بين إسرائيل والأردن والأردن والضفة الغربية الفلسطينية المحتلة.
توقفت السياسة. وشلت الدبلوماسية. ورن على رؤوسهم الطير.
لم تنته الحرب، وغزة ما تزال، برغم دمارها تقاوم وتؤلمهم. والحرب مرشحة لمزيد من الجرائم والمجازر الوحشية. وأطراف الإقليم الفاعلة غير العربية، إيران وتركيا، تستعد لتوظيف اللحظة العربية الجيوسياسية السائلة والدامية والكارثية لمصالحها السياسية والإستراتيجية، وهذا أمر طبيعي في علم مصالح الدول والأمم، فالسياسة كما الطبيعة، ترفض الفراغ وتتعارض معه. والفراغ العربي اليوم كبير كبير.
أما أميركيا، فلم يكن تمسك جزء كبيرا من النخبة السياسية الأميركية بحل الدولتين، نابعا من اعتقاد بعدالة القضية الفلسطينية، بل اقتناعا بضرورة حلها (بشكل غير منصف، ومع أكبر قدر من التنازل عن الحقوق التاريخية)، لتثبيت إسرائيل في المنطقة العربية، ولضمان مستقبلها. إذ لم تكتمل عملية التطهير العرقي للسكان الأصليين في أرض فلسطين بمحوهم تماما، وكان لمقاومتهم الإبادة الاستعمارية الاستيطانية أثرها في توليد وجهتي نظر صهيونيتين داخل المعسكر الاستعماري: واحدة تقول بضرورة استكمال التطهير العرقي بالقيام "نكبة جديدة"، إذ إن ترك هؤلاء يعيشون ويقاومون، هو خطر ماحق على مشروع الاستيطان الصهيوني، ولا يمكن لدولة "يهودية" خالصة، أن تستقر دون محوهم، ولو بالتدريج والقضم البطيء لأرضهم، وهو ما حاوله بعض المستوطنين في هذه الحرب، بتوزيع منشورات في الضفة الغربية، تهدد الفلسطينيين وتدعوهم للهجرة إلى الأردن، تحت طائلة مهاجمة المستوطنين لهم واستباحة بيوتهم. فيما وجهة النظر الأخرى، ترى الخطر على مشروع الاستيطان الاستعماري الصهيوني في المكابرة وعدم قراءة الواقع، وتجد في إنهاء قضية السكان الأصليين عبر منحهم "ربع دولة"، وشرعنة وجود إسرائيل في محيط عربي متربص بها، حلا واقعيا لتأمين مستقبل الكيان الصهيوني، واستمراره في القيام بوظيفته الاستعمارية.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى الاستقالة التاريخية لـ(كريج مخيبر)، مدير مكتب نيويورك للمفوضية السامية لحقوق الإنسان التي وجهها إلى المفوض السامي، هي أفضل مدخل دبلوماسي لمواجهة الخطاب السياسي الأميركي والأوروبي الفج، الذي يهيمن اليوم على مؤسسات الأمم المتحدة. فلحظة غزة الراهنة، هي كما وصفها السيد كريمر حرفيا: بأنها (حالة نصية للإبادة الجماعية. حيث دخل المشروع الاستعماري الاستيطاني الأوروبي القومي العرقي في فلسطين مرحلته النهائية، نحو التدمير السريع لآخر بقايا الحياة الفلسطينية الأصلية في فلسطين). أما عن حل الدولتين، فقد قال الرجل صادقا: لقد (أصبح شعار حل الدولتين، مزحة مفتوحة في أروقة الأمم المتحدة، سواء بسبب استحالته المطلقة في الواقع، أو بسبب فشله التام في مراعاة حقوق الإنسان غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني. ولم تعد اللجنة الرباعيـة المزعومة، أكثر من مجرد ورقة توت للتقاعس عن العمل والخضوع للوضع الراهن الوحشي. إن الإذعان (حسب نصوص الولايات المتحدة) لـ (الاتفاقات بين الطرفين أنفسهم)، (بدلا من القانون الدولي)، كان دائما بمنزلة إهانة شفافة، وكان الهدف منه تعزيز قوة إسرائيل على حساب حقوق الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال والمحرومين).
لم تنته الحرب..
ومصالح الجميع العربي مهددة بأخطار جدية وغير مسبوقة. كما أن جميع الخطط والمشاريع الإسرائيلية والغربية لتصفية القضية الفلسطينية التي كانت في الأدراج، يجري اليوم إخراجها ووضعها على طاولة التجريب والاختبار، وعلى رأسها خطط تهجير الفلسطينيين في قطاع غزة، وهو ما نراه اليوم أمام أعيننا، وتاليا تهجير أهالي الضفة الغربية، وما يترتب على ذلك من تغيير جيواستراتيجي قسري لملامح الشرق الأوسط ومنطقتنا العربية تحديدا.
فما العمل..؟
قد يبدو السؤال صعبا، ولكن الإجابة قد تكون أسهل من السؤال، وكما يراها المواطن العربي العادي:
1 - ذات سياسية عربية جديدة، لا بد من تكوينها الآن فورا، وخارج مؤسسة الجامعة العربية، وخارج كل المؤسسات الإقليمية العربية، وبمبادرة فاعلة من مصر والسعودية والأردن، وذلك في سياق المتغيرات الجذرية التي يشهده الإقليم والعالم.
2 - وضع اتفاقيات: كامب ديفيد، وأوسلو، ووادي عربة، وأبراهام، على طاولة جريمة القتل الهمجي في غزة للمراجعة، علنا، وأمام الجميع.
3 - وضع موارد النفط والغاز والطاقة والتجارة وخطوط النقل البري والبحري على الطاولة الدامية نفسها للمراجعة.
4 - قمة إقليمية ثانية، أطرافها: قادة عرب تفرزهم القمة الأولى، وإيران وتركيا، بمضامين إعادة ترتيب أمن الإقليم ومصالحة واستقلاله.
عندها يمكن لحديث وقف العدوان البربري على غزة، وفتح كل المعابر إلى غزة العرب، برا وبحرا وجوا، أن يكون ممكنا وحقيقيا وإنسانيا. كما أن تحرك الدبلوماسية الأردنية خلال الأسابيع الماضية بقيادة جلالة الملك عبد الله الثاني بدا الأكثر قربا من المطالب الفعلية التي تخدم الناس وتسعى إلى حل عملي للكارثة المتصاعدة.
أما تفاصيل ذلك، فله حديث آخر..
ذلك أن إنهاء القضية الفلسطينية بالشكل الذي تتم ممارسته الآن في غزة، وتاليا في الضفة الغربية، لن تكون وبالا على الفلسطينيين وحدهم، بل على الشعوب العربية ودولهم أيضا، مجتمعين ومنفردين. إذ لن تكون علاقة أي دولة عربية مع دولة الاحتلال، فيما إذا تمت تصفية القضية الفلسطينية، علاقة ندية عادية أو سوية، بل ستكون علاقة الغالب بالمغلوب، وعلاقة المهيمن بالمهيمن عليه.
والله، والأمة، وغزة من وراء القصد.