الأردن: المأكول المذموم
كتب فخري الطوال
لطالما اعتاد الأردن أن تبرز أصوات هنا وهناك – في الداخل وفي الخارج – متهمة إياه بالتقصير تجاه القضايا العربية والقومية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية وسائر القضايا الأخرى، وغالبًا ما تكون تلك الأصوات – بافتراض صدق نيتها – تجانب الواقعية التي تحتمها السياسة.
إنصافًا للجهود، وإحقاقًا للحق، وانطلاقًا من شعور بالتقصير تجاه تسليط الضوء على الجهود الأردنية وإنصاف هذا البلد، يصبح من الوجوب أن يشار إلى الجهود الأردنية وأن يشاد بها، في مثال عملي وواقعي نعيشه اليوم: العدوان على غزة، حيث يمكن سرد أهم ما قامت به الأردن مؤخرًا، على شكل فقرات غير متسلسلة لا في ترتيبها الزمني ولا في أهميتها، وذلك تزامنًا مع انطلاق أعمال الاجتماع الوزاري العربي في عمان، والذي يمهد إلى الاجتماع المشترك بين وزراء خارجية الأردن، والإمارات، والسعودية، وقطر، ومصر، وفلسطين، مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن.
نجح الأردن بقيادة الجهود العربية والدولية بخصوص قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الخاص بوقف إطلاق النار في غزة - على الرغم من رمزيته - لم يكن سهلًا، حيث أعزت صحيفة هولندية سبب عدم تصويت هولندا بالرفض - ويمكن تعميم هذا السبب على بقية الدول الأوروبية التي امتنعت عن التصويت بعد أن كان من المتوقع أن تصوت بالرفض - إلى تلويح الأردن بوقف المساعدات العربية إلى أوكرانيا، وهذا بحد ذاته مهم كونه يعني أن الأردن وصل في رفع المكانة العربية إلى الموضع الذي يخوّله أن يصرح ويهدد بشأن كهذا باسم الدول العربية. وهذا بالمناسبة ليس أول نجاح أردني من هذا الشكل، حيث نجح الأردن في العام ٢٠١٦ وفي حدث هو الأول - والأخير - من نوعه، عندما استطاع إقناع الولايات المتحدة الأمريكية بعدم استخدام حق الفيتو على قرار مجلس الأمن ٢٣٣٤ الذي اعتبر عمليات الاستيطان خرقًا للقانون، ولم يعترف بالمستوطنات، وأدى عدم استخدام أمريكا للفيتو، بطبيعة الحال، إلى نجاح القرار، مما وضع إسرائيل أمام مأزق دولي متمثل بوقوعها في المخالفة الدائمة لقرار لمجلس الأمن، وهو ما سيستخدم ضدها حتمًا يومًا ما.
قد يكون أهم قرار سياسي اتخذ منذ ٧ أكتوبر لغاية اليوم هو القرار المصري بعدم فتح معبر رفح لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، حيث أن الأردن كان الدولة الأولى - وإن لم تكن الوحيدة - التي تباحثت مع مصر بهذا الشأن، وأكدت على الموقف المصري في كافة المواضع، وبقيت تذكر بضرورة التمسك بهذا القرار، وبقيت تشدد بثبات موقف عدم فتح المعبر، حيث أن الأردن على يقين - بحكم تجربته - بأن الترانسفير سيبدأ في اللحظة التي تفتح فيه مصر معبر رفح حتى وإن كانت الغاية المبدئية غاية صحية إنسانية إغاثية، وستقوم إسرائيل حتمًا بعد ذلك بحرق قطاع غزة عن بكرة أبيه، بحجة أن المدنيين الأبرياء الذين لا ناقة لهم في هذه الحرب ولا جمل قد خرجوا من غزة، ومن بقي فيها فهو حتمًا "مساند للإرهاب والإرهابيين"، وسيفرغ قطاع غزة من الفلسطينيين.
استدعاء السفير الأردني من تل أبيب وإبلاغ إسرائيل بعدم إعادة إرسال سفيرهم موقف أردني جاء متفقًا مع مطالب الشارع، وعلى الرغم من ذلك، واجه القرار انتقادات عدة بوصفه متأخرًا أو غير ذي جدوى، ومن الجدير بالذكر بأن عددًا لا بأس به من الناس أبدى إعجابه ببوليفيا لقطعها العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، متناسيًا المحيط الذي يفصل الدولتين، ومتناسيًا الحدود التي تربطنا بإسرائيل. ويجب التنويه هنا بأن توقيت سحب السفير الأردني في تل أبيب جاء مباشرة بعد إجلاء الأردنيين وإعادتهم إلى أرض الوطن، وعليه فإنه من المنطقي الافتراض بأن الأردن كان بحاجة لوجود سفير أردني حفاظًا على الأردنيين، فعندما انتفت الغاية من وجوده مع انقضاء التهديد على الأردنيين بعد عودتهم، سحبت الأردن سفيرها، ومن غير الممكن حتى تخيل وجود أردنيين في الضفة وغزة دون وجود سفير أردني يتباحث بشأنهم، حيث كان ذلك سيكون بمثابة فشل الدولة في الدفاع عن رعاياها، وتلك خطيئة.
لطالما تعامل الإسلامي مع القضية الفلسطينية بصفتها قضية دينية، وهي معركة خاسرة مع الإسرائيليين، ولقد أثبت الأردن بأن تسطير أي نجاحات - وإن كانت بسيطة - في القضية الفلسطينية لا يكون إلا بالتعامل معها كقضية سياسية حقوقية دولية، حيث يمكن الإشارة بكل وضوح إلى نصوص قانونية ومواثيق ومعاهدات يتم خرقها بشكل واضح، وحيث يمكن حشد الجهود الدولية.
شهدنا في الأردن - ونشهد يوميًا - حملات المطالبة بتجنيس أبناء الأردنيات وغيرها من الحملات المشابهة، وكان عادة ما يتبناها التيار الليبرالي من منظور حقوق الإنسان وحقوق المرأة والكرامة الإنسانية والمساواة وما إلى ذلك من قيم، ولكننا اليوم نشهد مرحلة تتحول فيها العديد من وجهات النظر، حيث فوجئت شخصيًا بتغير وجهة نظر العديد من الداعين إلى التجنيس، بعد أن رأوا بأعينهم المخططات الإسرائيلية وشاهدوا التهديد الحقيقي للترانسفير، وبانت أمامهم حقيقة تفريغ فلسطين من الفلسطينيين، واتضحت أمامهم صورة فلسطين فارغة تمامًا من الفلسطينيين، المتخليين عن حق العودة، فعادوا وتراجعوا عن مطالبهم بالتجنيس، وهو ما كانت الدولة الأردنية تحذر منه دائمًا.
محور المقاومة، الذي يجد له آلاف محاميي الدفاع في الأردن، والذي يمكن النظر إليه بأنه مكون من ٣ عناصر، سوريا، وحزب الله، وإيران يقف مكتوف الأيدي؛ سوريا منهكة، ولم يصدر عنها لليوم ما يساعد أو يساهم في وقف العدوان الحالي، وإيران لا مصلحة لها بالدخول إلى الحرب، أو بمعنى أكثر دقة، لا مصلحة لها بحرب لأنها ولغاية اللحظة لم تواجه أي تهديد لأمنها، وحزب الله الذي لطالما اعتبر نفسه مقاومة مسلحة، نزع ثوب السلام والمقاومة، وأطل علينا نصرالله في كلمته يوم الجمعة ٣ نوفمبر كسياسي، يختار وينتقي مصطلحاته كسياسي، ويقوم بقياس الأمور من منظور المصلحة كسياسي، أي أن محور المقاومة (المسلحة) أضحى كالأردن، يتعامل مع الموضوع سياسيًا، مما يؤشر إلى أن السياسة والحل السياسي هو الطريق الأصلح، وهو المسار الذي اختاره الأردن وأبدع فيه لوحده ولفترة طويلة.
على الرغم من كل ما يحصل في غزة، استطاع الأردن أن يحافظ على رقعته الآمنة، التي يتمكن فيها التجار والقطاع الخاص والناس من غير المعنيين بالاحتكاك المباشر مع القضية من ممارسة حياتهم بشكل طبيعي دون أي قيود، أما وعلى صعيد القطاع العام، فإن الخدمات والأعمال والنفقات الرأسمالية لم تتوقف، وتم إيداع رواتب موظفي الحكومة والجيش والأجهزة الأمنية في مواعيدها، على الرغم من عدم تحقق الإيرادات المتوقعة في الموازنة العامة (والتي هي كما تعلمون، ميزان، بين إيرادات متوقعة، ونفقات مخطط لها) بسبب ظهور كلف إضافية طارئة، متمثلة بفاتورة جهاز الأمن العام في ضوء الوقفات الشعبية والاحتجاجات، وبسبب الدخل الفائت لضريبتي الدخل والمبيعات جراء حملات المقاطعة لبعض السلاسل العالمية وبعض المنتجات المعادية للقضية الفلسطينية، وبسبب العدد الضخم من إلغاءات الحجوزات السياحية في الفنادق وفي تذاكر الطيران، وما يترتب على ذلك.
أصبح الأردن مقرًا للتنسيق العربي والإقليمي والدولي المشترك فيما يخص القضية الفلسطينية، وهذا يعطي الأردن "نَفَسًا" - وإن كان بسيطًا - عند التفاوض والتباحث، بصفته "المعزب"، حيث تجري اللقاءات الرفيعة المستوى على الأرض الأردنية، ونستطيع إلى حد ما تغيير مسارات المفاوضات والحوار إلى ما يصب في صالح الطرح الأردني المتمثل بحل الدولتين. واستطاع الأردن أن يلغي القمة الرباعية التي كان من المزمع أن تعقد بتاريخ ١٨ أوكتوبر بمشاركة الرؤساء الأمريكي والمصري والفلسطيني، وهو ما لا تقوى دول عظمة على التجرؤ بالقيام به، فكان إلغاء القمة علامة احتجاج واضحة على مجزرة المستشفى المعمداني.
إذا ما أردنا النظر إلى الأمور من منظور استراتيجي بحت، فإن الدعم الغربي - وتحديدًا الأمريكي - اللامحدود لإسرائيل هو جراء سببين، أو مسارين، تخوضهما الدول الغربية: الأول هو شعور الرجل الأبيض بالذنب على ما اقترفه ضد اليهود تاريخيًا، وهو ما تقوم منظمة التحرير الفلسطينية وبعض الجهات الإلكترونية المنتمية لفلسطين بمحاولة تفكيكه، والثاني هو "اللوبيات" - اليهودية في بعض الأحيان والصهيونية في الكثير من الأحيان - ومدى تأثيرها على صناعة القرار السياسي والاجتماعي والثقافي في دول الغرب، وهو ما تقوم الأردن بمحاربته وحيدة (في ظل عدم تمتع غيرها من الدول بالعلاقات والنفوذ الذي تتمتع به الأردن)، فنشهد في هذه المرحلة أحداثًا استثنائية؛ حيث بدأت الأصوات داخل الكونغرس والشيوخ بانتقاد الــ أيباك بشكل علني داخل جلساتهم، وهو ما لم يحدث في تاريخ الولايات المتحدة بهذا الشكل، ومن المنصف القول بأن هذا التحول - أو نواة التحول - في الرأي السياسي الأمريكي والغربي هو بجزء كبير بفضل الديبلوماسية الأردنية والزيارات المتكررة والمحادثات الثنائية والجماعية، حيث لطالما حرص الأردن على علاقته مع الكونغرس والشيوخ بذات مستوى حرصه على العلاقة مع البيت الأبيض، كما يمكن القول على صعيد متصل بأن جهود التوعية والتثقيف حول القضية الفلسطينية والذي أدت - وتؤدي - إلى تحول في الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية، تخرج معظمها من الأردن، بصفة الأردن أكبر صانع للمحتوى العربي على الإنترنت، وأكبر مساهم عربي في المحتوى الأجنبي على الإنترنت.
الأردن محاط من جميع الجهات وجميعها متربصة، ففي غربه كيان محتل توسعي يهدد وجوده، وفي شماله وشرقه مناطق يسيطر عليها قطرٌ توسعي أيضًا، وفي جنوبه معسكر خليجي يسير باتجاه مصالحه من غير أن يكون معنيًا بقضايا تعتبر رئيسية وأساسية في الأردن – ولا ملامة على ذلك. ويثبت بعد هذا، أن النهج الذي لطالما انتهجه الأردن هو الأسلم والأكثر تأثيرًا، حيث تتناحر في داخل الأردن ثلاثة جبهات رئيسية؛ متمثلة بالإسلاميين، والليبراليين (إذا صحت تسميتهم بهذا المصطلح)، واليساريين (أيضًا إذا صحت تسميتهم بهذا المصطلح) - حيث أنها تسميات لأطياف واسعة للتدليل على ما يمثله كل منهم من قيم ومطالب وأساليب، ويثبت مع الوقت بأن أساليبهم لم تكن أكثر نجاعة من الأسلوب الأردني، ويتبين مع الوقت بأن النهج الوسطي السياسي الأردني خدم القضية الفلسطينية أكثر من أي نهج آخر يتبعه من يدعون أنهم أكثر حرصًا على القضية وعلى فلسطين وعلى الفلسطينيين.
ببساطة، الموقف الأردني لا يحتمل التخوين، لأن ما يحصل يمس الأردن بشكل مباشر، وقد لا يمس غيره بذات الأثر. الأردن مهدد بتهجير ٣ مليون فلسطيني من فلسطينيي الضفة الغربية، إلى دولة يبلغ تعداد سكانها ١٠ مليون، مشوهة ديموغرافيًا بالأصل نتيجة ظروف تاريخية مشابهة، وهذا ليس بالأمر السهل أو الهين. فالأردن تتقاطع مصلحته المباشرة والوجودية مع حل القضية الفلسطينية، ويضاف إلى ذلك الواجب والموقف القومي والعربي وكل ملحقات وتوابع ذلك. يمكن أن يفهم المرء تخوين دولة إذا كان موقفها موقفًا عربيًا قوميًا فقط، فيشك المرء في صدق نوايا تلك الدولة، أما تخوين دولة تحاول بالدرجة الأولى الحفاظ على نفسها وعلى كينونتها، في ظل مشروع إسرائيلي توسعي، ومشروع إيراني/فارسي توسعي، ومشروع تركي/عثماني توسعي، ومشروع خليجي يتعامل بسطحية مع المشاريع الإقليمية الثلاثة الأخرى، دون أية موارد، ودون أي سلاح سوى سلاح الديبلوماسية، فهو ظلم، فلا تحملوا الأردن فوق طاقته، ولا تكسروا ظهره، فليس للأردنيين وطن غيره، وليس للفلسطينيين حنجرة غيره، وأثبت قدرته على استشراف المستقبل مرارًا.