نحو نخب جديدة قيد التصنيع
الليبراليون لديهم تعصب ضد البيروقراطية، فيتم اتهام البيروقراطيين دوما بتعطيل الإصلاح وثقل الخطى والبطء في اتخاذ القرار، هؤلاء الليبراليون يمثلهم التكنوقراط، وهم دوما "بحكم تركيبهم" يعتبرون أنفسهم فوق المحاسبة، والمحاسبة أصلا مهارة بيروقراطية.
البيروقراطية بدورها تنفر من التكنوقراطيين، وتعتبرهم دخلاء مفسدين لقواعد الإدارة المضبوطة على لوائح وتعليمات يجب الانصياع لها مهما كانت الظروف.
التكنوقراط بطبيعتهم آلات لا تجيب إلا عن الأسئلة التي يتلقونها فقط، ولا يطرحون الأسئلة، بينما البيروقراط بحكم تركيبهم البنيوي لا يطرحون الأسئلة خارج التعليمات المكتوبة، وتكون إجاباتهم – حين لا يملكون الإجابات- مجرد مخارج آمنة في حدود المسؤولية.
أخطر ما يمكن حدوثه – وقد حدث فعلا- أن يكون التكنوقراطي أو البيروقراطي صانعا للسياسات، وها نحن ننتهي اليوم بنخبة "صناعة قرار" متخمة بكثير من البيروقراطيين " الصاعدين بتراتبية الوظيفة ومحسوبية التعيينات" أو التكنوقراطيين الهابطين عليها بالاختيار النخبوي، بينما السياسيون المحترفون الحقيقيون على وشك الانقراض.
السياسي هو ذلك الذي يطرح الأسئلة دوما، ولا يعجز عن الإجابات بل يبحث عنها حتى يجدها، وهو الذي يشعر بالمسؤولية السياسية على الدوام، ويستخدم ذكاءه ومعرفته وكل طاقته لخلق الرؤية باستمرار، السياسي هو الذي يملك من المرونة ما يكفي للتوسع في مجال رؤيته أفقيا وعموديا من موقع مسؤوليته، وهو الذي يستطيع أن يصيغ اعتراضه على قرار من هو أعلى منه بعرض حلول بديلة وفاعلة.
مشكلتنا في الدولة الأردنية أن صناعة القرار "في الأغلب والأعم" باتت بيد البيروقراطيين والتكنوقراطيين، خصمان تاريخيان استدامة الصراع الوهمي بينهما هو سبب استدامة الوضع الراهن في الأردن.
هذا كله لا يعني أن التكنوقراط بلا فائدة، تلك الفئة ضرورة في مؤسسات الدولة – أي دولة- لأنهم يملكون المهارة الفنية المطلوبة والحيوية في التنفيذ والتطبيق.
وهو ما يمكن قوله عن البيروقراط، العصب الأساس للإدارة العامة في الدولة – أي دولة- وضمان المحاسبة والمساءلة فيها بدون إفراط.
في السنوات الماضية، كانت الإدارة العامة للدولة منقسمة جدليا بين ليبراليين " وهي تسمية مجحفة لليبرالية" ، ومحافظين " وهم يحملون الاسم بحرفيته وينفرون من التغيير".
هذا الصراع في المحصلة المتراكمة، أبعد عن المشهد "وإدارته" نخبة السياسيين وأوقف إنتاجهم في ماكينة الدولة التي كانت تنتجهم – بامتياز نوعي- في زمن مضى، فتوقفت الدولة عند اللحظة الراهنة التي تصبح فيها أي رؤية او مبادرة إصلاحية كانت أو تنموية رهينة ذلك الصراع نفسه، وأول ضحايا كل ذلك كان "التخطيط" الذي لا يمكن للبيروقراطي ولا التكنوقراطي أن يبدعه.
مبادرات ورؤى كثيرة انتهت إلى غير ما انطلقت منه، والأمثلة عديدة في العقدين الماضيين، منها "وليس حصرا" مبادرة سكن كريم لعيش كريم، وتحديث التعليم والمدارس والمناهج، وترشيق الخدمات الحكومية وفكرة النافذة الواحدة، وتشجيع الاستثمار، والخطط الوطنية للسياحة، وغيرها كثير.
ما نأمله من باب الأمنيات الصادقة، أن تكون التجربة القادمة في الانتخابات "الحزبية" الجديدة بنوعيتها، فرصة لإنتاج نخبة السياسيين الذين توقف خط إنتاجهم منذ زمن، سياسيون حقيقيون يصنعون القرار، وقادرون على قيادة المشهد وضبط التوازنات بين كل أطراف الدولة ومكوناتها المؤسسية، وخلق الرؤى الحيوية المطلوبة لاستمرار الدولة ومؤسساتها.
تلك المؤسسات ذاتها التي لا يمكن ان تعمل وتسير أصلا بدون البيروقراط والتكنوقراط في مفاصلها و بين مسنناتها.