مجتمع مدني يبحث عن مؤسساته الحقيقية
ما نزال في الأردن ضحايا فهمنا الخاطئ للمفاهيم، وتلك مشكلتنا وليست مشكلة المفاهيم.
مثلا: مؤسسات المجتمع المدني هي قائمة على مفهوم وجود مجتمع مدني يخلق مؤسساته حسب الحاجة لها. لكن في الأردن، نحن أمام مؤسسات تخلق نفسها من أجل -وعلى قدر- التمويل، فتضبط غاياتها على ذلك.
في غياب الحياة الحزبية، صارت بعض تلك المؤسسات تخرج عن أساسها التكويني لتملأ الفراغ السياسي وتقوم مقام الأحزاب، فكان مجمع النقابات المهنية -وهي مؤسسات مجتمع مدني- في فترة من تاريخ الأردن السياسي ميدانا لممارسة المعارضة السياسية، ومع تراكم "البطولات الاستعراضية" نسيت تلك النقابات دورها الأساسي في حماية حقوق منتسبيها، وصار النقباء عموما مشاريع سياسيين بدلا من شيوخ كار يحمون حقوق زملائهم.
وفي مرحلة ما بعد عودة الحياة الديمقراطية في تسعينيات القرن الماضي، ظهرت الحاجة إلى حضور مؤسسات ومنظمات غير حكومية لها غايات مؤطرة في الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية والإعلام وحرية التعبير، وكان هذا الحضور ضروريا، لكن مثل كل شيء في الأردن، فإن عملية التفريخ والتوالد المستمر -كما حدث في تجربة الصحف الأسبوعية- خلقت سوقا تجارية صارت فيها المضاربات والتنافسية على التمويل هي الغاية لا ما يجب أن تكون عليه الغايات الأساس لتلك المؤسسات عموما، وانتهينا إلى اجتماعات تلو اجتماعات في قاعات مكيفة يحضرها نخب يتداورون على قوائم المدعوين نفسها في جلسات حوار مكررة واستعراضية.
طبعا، أستثني قلة من تلك المؤسسات التي تحاول بجهد وصبر ووعي أن تخرج من متاهة سوق المضاربات التمويلية، وقد تشرفت بحضور فعاليات استثنائية تقيمها تلك المؤسسات التي تبحث فعلا عن المجتمع المدني وتدرك مفهومه كما تدرك دورها فيه، وسعيها للتمويل مبني على غاياتها ومشاريعها وليس العكس، وكان آخرها مؤسسة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية "أرض" التي يعمل فريقها باحترافية وهدوء وثقة دون الدخول في منافسات ماراثونية محمومة لإثبات الحضور، وتصبح دعواتها مسؤولية حقيقية مثقلة بالتحضير الجاد، لأنها دعوات قائمة على نوع الضيوف وتعددهم لا عددهم وألقابهم.
في ظل حضور وشيك وقادم "وحتمي" لحياة حزبية في الأردن، فإن دور تلك المؤسسات "المدنية" ضروري في سياق عملية انتقال المجتمع من حالة إلى حالة أخرى مختلفة كليا وجذريا، وهذا يتطلب وعيا بالمسؤولية، مما يعني مشاريع مختلفة منهجيا عن السابق، وهو واجب مطلوب من تلك المؤسسات لا للمراقبة والرصد فقط، بل لتهيئة السياسيين والمواطنين بالمعاني والمفاهيم الأساسية السياسية والقانونية والدستورية، مما يجعل عملية "الانتقال الديمقراطي" القادمة والوشيكة والحتمية أكثر نجاحا، وبصراحة أكثر: هذا يتطلب من تلك المؤسسات إعادة تأهيل نفسها وفرقها بما يرتقي تلك المرحلة القادمة.
مؤسسات المجتمع المدني ليست بالضرورة أن تكون معنية بالسياسة والاقتصاد، المجتمع المدني لديه أزمات ومشاكل وقضايا أكثر من ذلك، والأردن لديه قضايا تتجاوز "تمكين المرأة" أو الخوض الأزلي في جدليات متلازمة الحرية والأمن أو "هل أتاكم حديث الأحزاب".
لدينا مشكلة تصحر، لدينا أزمة مياه وجودية، لدينا قطاع زراعي يحاول أن ينجو في سياق إقليمي يبلور مشاريع تكاملية، ولدينا أزمة لوجستيات قد تحل مشاكل اقتصادية كبيرة، في اقتصاد يبحث عن هويته بين سيطرة دولة فقدت قدرتها الريعية وقطاع خاص مسخته الريعية ذاتها.
أين من تلك القضايا كلها تقف مؤسسات المجتمع المدني؟
مثلا وليس حصرا: لم أسمع أو أقرأ عن مؤسسة واحدة تدعم أو تتحدث أو تقيم حوارا عن مشروع القينوسي للغابات الحرجية، وهو مشروع فردي تقوم به محامية نشيطة (الأستاذة أمل العمري)، وكل ما حصلت عليه لقاءات تلفزيونية تشبه فرض الكفاية في بلد يواجه خطر التصحر بشدة.
هذا مثال من أمثلة موجودة على السطح ولا تحتاج جهدا كبيرا للبحث عنها، لكن تبقى الإرادة والمبادرة في التصدي لأزماتنا على الأرض، والخروج من القاعات المكيفة، والتمويل السهل ذو الاتجاه الواحد.