الـ"ما - بعد - إنسان"..! (1)

{title}
أخبار الأردن -

علاء الدين أبو زينة

لم يتوقف الإنسان منذ وُجد عن خلق المتاعب لنفسه. وكان عنوان مساعيه هو الفوز في منافسة هي المعطى الذي يحتاج إلى الوسائل. وأي تطور حدث في العلم وتطبيقاته، كان يخدم أخيرًا في مخرجاته العملية تعظيم الربح وتأكيد التفوق والفروقات. وحتى في المجال الإنساني والأخلاقي، تحدد رواج التعريفات والمفاهيم بعامل القوة والمصلحة. وعلى الرغم من تعريف الإنسان بأنه الأعلى والأسمى في الأنواع الحية وشبه الحية، يبتكر الإنسان الوسائل للقضاء على الفيروسات القادرة على قتل الملايين، ليتفرد وحده بهذه الميزة التي يستخدمها ضد بني جنسه. وقد أصبح معيار القوة، وبالتالي امتلاك سلطة التعريف والحكم بأخلاقية الوسائل، وانتزاع الحصة الكبرى من الموارد، يرتبط بالأكثر قدرة على قتل أكبر عدد من البشر -أو حتى إنهاء الحياة على الكوكب.

في هذه المعادلة، يدفع الأقل «تطورًا»، وبالتالي -فيما ينطوي على مفارقته الخاصة- الأقرب إلى الإنسانية في شكلها الخام والأبسط، ثمن تفوق الآخرين، من رصيد إنسانيته نفسها. والآن، بالإضافة إلى التهديد بالإفناء التام بأسلحة الإبادة الذي لا يجد هؤلاء المستضعفون لأنفسهم أمامه دفاعًا، ثمة ما يبدو أنه المسمار الأخير في نعش ما تبقى من الشبَه بالإنسانية بتحويل البشرية إلى «نوع» كانت تتخيل وجوده في الأدبيات في كواكب أخرى في الكون، ليهددها بقدراته الفوق-إنسانية. ومثلما يحدث في كل شيء آخر، لدى العالَم الأقل حظًا مشاغله القريبة التي تستنفد انتباهه وتشغله عما يحدث في العالَم المهيمِن الذي يبتكر المزيد من أدوات التلاعب بمصائر البشر ويمارس المزيد من ازدراء «المتخلفين». الآن، ثمة نظرية، مفهوم، أو مسعى، ومناقشات ومقدمات لنقل البشرية إلى مرحلة غامضة ومليئة بالفخاخ والأركان العمياء.

 

الآن، تستكشف الحركة الفلسفية والثقافية الناشئة المسماة، «ما- بعد- الإنسانية»، بمنتهى الجدية والدأب، التداعيات المختلفة التي تأتي في ركاب التقنيات الجديدة، والعلاقة المتطورة بين البشر والتقنية، والاحتمال الواقعي لتجاوز القيود البشرية التقليدية. وتركز الحركة على استشراف مستقبل البشرية في ضوء التطورات الحثيثة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، والتكنولوجيا النانوية، والروبوتات.

في جوهرها، تتحدى بشرية «ما- بعد- الإنسانية» المتصوّرة الفهم التقليدي لما يعنيه أن يكون الإنسان ما هو، بما في ذلك الصفات الجسدية، والوعي، والهوية والأخلاق. وتشكك النظرية في فكرة أن الطبيعة البشرية ثابتة، وتقترح بدلاً من ذلك أن بالإمكان تعزيز البشر، أو تعديلهم، أو حتى استبدالهم باستخدام الوسائل التقنية. وتتصور النظرية مستقبلاً لكيانات يندمج فيه البشر والتقنية، أو يتعايشون بطرق جديدة، وصولاً إلى ظهور أشكال جديدة من الحياة أو الذكاء. وتتضمن البشرية المعززة المتصورة تعزيز القدرات المعرفية، وتمديد عمر الحياة، أو حتى تحقيق الخلود الجسدي. وتفحص النظرية الآثار الأخلاقية والاجتماعية لهذه التطورات، بما في ذلك قضايا التفاوت، وفرصة الوصول إلى التقنية، والخسارة المحتملة للوكالة البشرية لصالح عنصر غير إنساني.

وفق هذه الرؤى، سوف تظهر من التكامل المتوقع بين التقنيات المتقدمة وعلم الأحياء البشري كائنات مثل الـ»سايبورغ» Cyborg. والسايبورغ هو ذلك الكيان، أو الكائن، الذي يجمع العناصر البشرية التقنية والتقنية معًا. وسيتكون من جسم بشري أضيفت إليه تقنيات مدمجة، سواءً كانت تعزز وظائفه الحيوية الطبيعية أو تضيف إليه قدرات إضافية. ويمكن أن يشمل السايبورغ، مثلاً، أجهزة طبية مزروعة في جسم الإنسان لتحسين وظائفه الحيوية، مثل القلب الصناعي أو الأطراف الصناعية المتقدمة (الجانب الحميد من تفاعل التقنية مع الأحياء). ويمكن أن يشمل أيضاً تطورات في مجال الواجهة المباشرة بين الجهاز البشري والأجهزة الإلكترونية، مثل زراعة رقاقات إلكترونية في الجسم، أو توصيل الأجهزة الذكية بالجهاز العصبي البشري. والهدف: تعزيز قدرات الإنسان وتوسيع نطاقه الوظيفي بالاستفادة من التقنية.

ثمة رؤى متفائلة حول هذا النوع من الـ»سايبورغ»، ترى تعزيز الإنسان من منظور قدرته الجديدة على تجاوز الاختبارات الحرجة. وثمة رؤى متشككة ترصد المخاطر والعواقب المرتبطة بهذه التحولات. وقد تطلب تنوع مستوى تعقيد البحث وتصوراته استدعاء وحشد العديد من التخصصات: الفلسفة، والعلوم، ودراسات التكنولوجيا، والدراسات الثقافية، والطب، وعلوم الحاسوب، والهندسة والفن، وغيرها من المجالات الممكنة، لإدارة نقاش يحاول استكشاف هذه التفاعلات المعقدة الممكنة بين البشر، والتقنية، والمجتمع.

ما تحدثون عنه، إذن، هو شيء يشبه كثيرًا ما نراه في أفلام الخيال العلمي: الوجود مع كائنات متفوقة، فضائية بأحد المعاني. وحسب ما نعرفه من التطورات في علم الجينات، وما يصاحبه من تطور مذهل في ذكاء الآلات والروبوتات، فإن تحقق هذا الوجود الجديد ليس بعيدًا كما كنا نتصور. وإذا حدث، فإننا سنكون «الأرضيين» في علاقة مضنية مع «الفضائيين» من العالم صاحب النظرية والأدوات. (يُتبع)

تابعوا أخبار الأردن على
تصميم و تطوير