إعلام جدليات الدجل
قد يكتب أحدهم على الفيسبوك: (سمك التيسيوس يواجه الانقراض في موطنه الطبيعي خليج العقبة).
هكذا جملة تجد مكانها غير الشرعي في عالم افتراضي متخم بكل ما يخطر ولا يخطر على البال، لكن في الأردن ستجد الراصد المناوب في أي من دكاكين المواقع الإلكترونية المتخصصة بالقص واللصق الفوري، قد أخذ السطر إياه ويضيف قبله كلمة "عاجل" ليرميه على الموقع خبرا وسيتم نشره على صفحة الموقع في الفيسبوك أيضا لغايات استقطاب التفاعل الجماهيري، وقد يكون الراصد فيه شيء من إبداع فيضيف للعنوان سطرين كتفاصيل مفادها:
مشاريع سلطة العقبة تقتل سمك التيسيوس والحكومة تلتزم الصمت ووزير البيئة يخفي ملفا بالغ السرية في التفاصيل.
هكذا يُصنع الخبر عموما في العالم الافتراضي الأردني ( والعربي عموما).
وطبعا، لأن الأردنيين موهوبون جدا بابتكار الجدل وتحويله إلى حالة مطاطية تمتد لأيام عديدة وفي أي موضوع مما يجعله حديث الساعة فإن الخبر المتعلق بسمك التيسيوس سيكون "ترند" الرأي العام الذي ستتفرع عنه تفاصيل كثيرة.
وسنرى الخبراء ينبثقون في كل زوايا التواصل الاجتماعي في التعليقات خصوصا، ومنهم من سيتحدث عن تفاصيل حياة سمك التيسيوس ومواسم هجرته بل يمكن افتراض قراءة تفاصيل الخريطة البيولوجية للجهاز الهضمي لسمك التيسيوس، وكل هذا غالبا سيكون مصدره خبيرا أردنيا يرتكي على وسادته وبجانبه ابريق شاي بنعنع، أو الخبير الثقيل الذي انهى وليمة يوم الجمعة لتوه، ولديه من ضجر الوقت ما يكفي ليخلق حكايته ورأيه في خبر "سمك التيسيوس".
الجدل والجدل المضاد سيتطور إلى مسؤولية الحكومة والدولة عن مصير سمك التيسيوس، وربما نجد في الجدل أبعاد إقليمية فيها شبهة تطبيع، أو استهداف للثوابت المجتمعية الأردنية ومساس بخصوصية المجتمع، وقد نجد تفريعة أو تفريعتين عن الرأي الفقهي بجواز أكل لحم سمك التيسيوس من زاوية "الطبيعة المطاطية" للحوار الأردني خصوصا بعد أن يفيد خبير أردني في التعليقات أن هذا السمك يتناسل بالتلقيح الذاتي لنفسه.
بعد أسبوع من كل ذلك، وفي بلد بحره الميت لا أحياء بحرية فيه، وخليجه اليتيم لا يتجاوز ساحله 30 كم على البحر، وبعد كثير من المعارك الكلامية وتراشق الاتهامات ومطالبات بإقالة وزير البيئة على خلفية تلك الجريمة البحرية، وظهور "مدهش" لوثائق لا يعرف أحد مصدرها وسرها المخفي، سنكتشف أنه لا يوجد في كل المخلوقات البحرية في الكوكب شيء اسمه "سمك التيسيوس".
ومع ذلك..
سينتج لدينا تيار أردني نيوليبرالي يدافع عن حق سمك التيسيوس في الوجود، وتيار محافظ يدعو إلى تصفية سمك التيسيوس الغريب عن مجتمعنا وتقاليدنا.
بعيدا عن كل هذا التصور الفانتازي الضروري لتوضيح الفكرة، فكل ما نريد قوله هنا إن الرأي العام له حقوق وأول تلك الحقوق وجود شرعي لمنظومة إعلام شرعية، والشرعية هنا هي الاحترافية المحصنة بالمسؤولية المهنية، وهذا لا تنتجه قوانين عقوبات تتوالد مع كل أزمة رأي عام، بقدر ما ينتجه تعليم محترم ومعرفة واعية تنتج جمهورا قادرا على التفكير والنقد والحوار المنتج للرأي العام القوي بتعدديته.
وربما هناك في زوايا "السلطة" في الدولة من يرغب باستمرار الحال الراهن، لأن قضايا مثل قضية سمك التيسيوس كافية ووافية لخلق السواتر الضبابية التي لن تجد صحافة مهنية وحقيقية تشتغل بها.