سكك حديدية إقليمية
المنطقة في حالة تغير جذري من شرق أوسط إلى شرق متوسط، بمفردات جديدة كليا في التحالفات والعلاقات الإقليمية والدولية، وعنوان العلاقة الجديد هو التكامل التنموي بالمعنى الحقيقي لا الإنشائي للمفهوم، ولكي تكتمل الفكرة فلا بد من ربط حديدي ضخم، يجعل شرق المتوسط “المشرف على أوروبا” في متناول اليد، ومضائق الأحمر والخليج مهيأة للربط الإقليمي بكل ما خلفها من مساحات شاسعة ممتدة بين دول الإقليم، بل وربط كل الإقليم بشرق آسيا وجنوبها حتى الهند.
العلاقات البينية بين دول المنطقة صار يحكمها فلسفة جديدة تؤسس لقواعد عقلانية بعيدة عن كل قواعد وعلاقات الماضي، وتحاول أن تقفز فوق حواجز الأزمات السياسية الراهنة، وهذا كله من خلال تبني رؤية تفعيل القطاع الخاص بكل المشاريع الريادية الاقتصادية المشتركة بين الدول.
في أفق الواقع لا أرضه، هناك مشروعان طموحان وكبيران داخل حدود الإقليم: مشروع تقوده السعودية ويهدف إلى ربط دول مجلس التعاون بالعراق ثم سواحل المتوسط، ومشروع تسعى إليه إيران يربط عمقها الغربي بالعراق ثم ميناء اللاذقية.
على خلفية تلك الآفاق، هناك المشروع الصيني الكبير في طريق الحزام الذي يعيد إنتاج طريق الحرير التاريخي، وهو ما جعلني أنتبه إلى التوسع في رؤية المشروع السعودي ليصل إلى الهند وجنوب آسيا عبر تحالف من موانيء مترابطة وجسر من المرافيء البحرية مرتبط بالسكك الحديدية والطرق البرية، وبإزاحة ناعمة لإسرائيل من الواجهة “مع بقاء حضورها الفعلي” انتقلت قيادة وإدارة مشروع الرباعية ” I2U2″ إلى الرياض بمشروع ربط سككي ضمن مشاريع تلك الرباعية لتأسيس بنية تحتية إستراتيجية جديدة في ذلك الشرق الأوسط، الإقليم الذي يشكل جزءا حيويا أيضا من رؤية الصين لطريقها وحزامها القادم.
مشروع الصين الطموح قد يتقاطع بالتفاهمات مع المشروع المقابل الذي تطمح إليه الرياض، وليس بالضرورة أن يصطدم المشروعان كمواجهة، فقد تغيرت فلسفة القواعد في العلاقات الدولية والإقليمية إلى تعظيم الرؤى التكاملية وحضور القطاع الخاص الذي ينفر من الأزمات السياسية بطبيعته الرأسمالية.
لكن ماذا عن كل هذا الإرث من الأزمات السياسية في المنطقة وبعضها ما يزال مشتعلا بالدم والحروب؟
التفاهمات السياسية التي يتم صياغتها على استعجال ومحاولات لملمة الملفات المفتوحة هي مفتاح التنظيف الأمني لكل المحيط الحيوي للمشاريع القادمة، بكل ما يتطلبه ذلك من عمليات فكفكة سريعة وأحيانا عنيفة لمكونات “الوضع الراهن” الذي لن يكون كذلك قريبا.
ومع مشاريع الربط السككي فإن هناك ارتباطا وثيقا بين “الأمن” وسكك الحديد، لأن أهمية وجود سكة الحديد كحالة تجسير ونقل لوجستية حيوية تصبح بلا معنى لو كانت محاطة بأي خطر يهدد دفق الحركة عليها، وأي تهديد لهذه الحركة التي يجب أن تظل مستمرة بلا توقف سيتم اعتباره قرصنة وقطع طريق والتعامل معه كجريمة.
المقلق أني حين بحثت عن حضور أردني في المشاريع السككية تحديدا، وجدت خبرا محليا يفيد أن الحكومة تجري مفاوضات لتنفيذ مشروع السكة الحديدية الوطنية. وحسب الخبر فإن المصدر لم يكشف عن الجهات التي يجري التفاوض معها!! هكذا ببساطة.
المشروع السككي ورد في رؤية التحديث الاقتصادي، وتم تقدير كلفته بمليار و900 مليون دينار، ومع ذلك فمن يتحدث عنه مصدر رسمي لا يريد الكشف عن نفسه، ولا أن يتحدث عن الجهة التي يتم التفاوض معها.
بعيدا عن هذا الغموض الرسمي، فإن مشروع سكة حديد وطنية “ومؤهلة إقليميا” هو اول خطوات الحلول الحقيقية للتنمية المستدامة في كل المستويات.
والناجون في العالم الجديد، هم من يركبون القطار المسرع بلا توقف، والضحايا هم من ينتظرون الضوء في آخر النفق واقفين.