ما “نهاية العالم”..؟!
أثار مقال مترجم نشرته “الغد” قبل أيام بعنوان “كيف تخيل الفلاسفة القدماء نهاية العالم؟” بعض النقاش على وسائل التواصل الاجتماعي حول فهم “نهاية العالم” وأسبابها الممكنة. ويتبين من المداخلات أن معظمنا غير قادرين على الانخراط في نقاش مجرد من التصورات المسبقة المحفوظة وعلى ممارسة التفكير المجرد. وذهب الكثيرون إلى عرض تصور واحد لنهاية العالم؛ السيناريو اللاهوتي الموصوف عن “يوم القيامة”، “يوم الدينونة”، و”يوم الحساب”، نقطة. بل ذهب بعضهم إلى تكفير مجرد طرح السؤال. وليس القصد هو التقليل من شأن هذا التصور، إنه اختيار عدد غالب من الناس في بيئتنا تحديدًا. لكن الفكرة هي أنه يبقى واحد فقط من عدد غير قليل من التصورات الأخرى لماهية نهاية العالم وسيناريوهاتها المحتملة. والأهم من ذلك، أن التصورات اللاهوتية عن “نهاية العالم”، بسبب طبيعتها القدَرية، ربما تتعارض مع التحذيرات العلمية من القرارات البشرية التي قد تسرّع هذه النهاية، بدليل الخلاصات التجريبية والأرقام وتوقع النتائج من المقدمات، وبالتالي إعفاء الناس أنفسهم من المسؤولية عن هذه القرارات.
يمكن الحديث عن مفهومين لنهاية العالم. أحدهما فيزيائي، بمعنى أن يتسبب حدث في تدمير كوكب الأرض (بوصفه “العالم” للكثيرين)، والآخر وجودي بالمعنى الإنساني، يتعلق بانتهاء الوعي بوجود العالم الذي يمثله البشر. وفي معظم السيناريوهات الدنيوية لـ”نهاية العالم”، يُفترض في الأساس نهاية وجود البشر، كلهم أو معظمهم، (وأشكال الحياة الأخرى)، بفعل حوادث كبيرة، طبيعية أو “مقصودة”.
ثمة، بالمعنى الأخير “نهاية العالم النووية”، و”نهاية العالم البيئية”. وثمة بالمعنى الأول نهاية العالم التي قد تأتي بفعل اصطدام جسم كوني كبير بكوكب الأرض وتدميره بمن عليه. وقد لاحظ قسم من المداخلين في النقاش المذكور أنهم يستبعدون تمامًا حدوث التطور الأخير، لأن الكون، في رأيهم، سائر على ما هو عليه منذ فترة طويلة. ومن الواضح أن هذا الرأي قصير النظرة، زمنياً، لأن القصة العلمية عن الكون تتحدث عن هلاك نجوم وولادة أخرى، ناهيك عن الكواكب الصغيرة. ولا يمكن استبعاد أن يحدث اختلال من هذا النوع يطال كوكبنا، وبالتالي انتهاء وجودنا و”نهاية العالم”.
لا تغيب “نهاية العالم النووية” عن أدبياتنا العلمية والسياسية. وهو سيناريو مرهون بإرادة أفراد لديهم الأزرار النووية، وقد يحسبون في لحظة أن فتح باب الجحيم النووي هو الخيار المتبقي. حدث ذلك في حالة هيروشيما ونجازاكي. وكان ذلك “نهاية عالم” بالنسبة لليابان، وبشكل خاص لسكان المدينتين: مجرد تصور مشاعر الناس الذين ضربتهم الصاعقة النووية مفزع جداً؛ إنها نهاية عالم حقيقية بكل المعاني بالنسبة لهؤلاء السكان ربما لم يكونوا ليتصوروها في أكثر كوابيسهم جموحاً، قبل أن ينتهي وجودهم نفسه. وفي وقتنا، سوف يفتح بدء تبادل نووي عالمي بابًا لن يعرف أحد إلى أين يفضي. وسوف يكون بالتأكيد “نهاية العالم” بالنسبة لعدد غير محدود من البشر والأماكن التي لن تعود صالحة للحياة.
و”نهاية العالم البيئية” أيضًا احتمال ممكن، سواء بمعنى تغيير الكرة الأرضية كما نعرفها طبغرافيًا وبيئيًا، أو موت عدد من البشر ربما يصل إلى موتهم جميعًا. ومن منا لا يلاحظ التغيرات المناخية التي حدثت في مدة حياة؟ ثمة أحوال الطقس المتطرفة، من الفيضانات الكبيرة، إلى الحرائق الصيفية، إلى العواصف المتطرفة والأعاصير– وحتى موت أشخاص بسبب ارتفاع غير معتاد في درجات الحرارة. وكلما كبرت نطاقات هذه الحوادث التي يرجعها العلماء إلى تصرفات البشر، ارتفع احتمال حدوث “نهايات عالم” بالنسبة للناس الذين تضربهم هذه الأحوال. ويقولون أن مدناً ساحلية ستختفي، وأخرى ستدمرها الزلازل. بل وربما يعني زوال الطبقة العازلة الحامية لكوكب الأرض إلى أمراض وأحوال مميتة بسبب أشعة الشمس ومكوناتها التي نفقد حماياتنا منها ببطء، وإنما بدأب.
بطريقة ما، لم يعد نقاش “نهاية العالم” ميتافيزيقياً وبلا غاية عملية. ولا يمكن الركون إلى التفسيرات القدَرية وحدها التي تعفي الناس من مسؤوليتهم وأهمية قراراتهم في جلب “نهاية العالم” بمختلف تعريفاتها. حتى الأديان لا تعفي البشر من مسؤولية قراراتهم ومن قاعدة الأخذ بالأسباب. وباعتبارنا جزءًا من البشرية، فاعلًا ومتأثرًا بالقرارات كلها في نهاية المطاف، فإننا ينبغي أن نتأمل في علاقة كل ذلك بـ”نهاية العالم” كاحتمال عملي، وبمعنى فقدان الشروط اللازمة لبقاء الحياة البشرية/ الوجود.
تصوروا، مثلاً، عاصفة ثلجية باردة جداً مستمرة يرتفع فيها الثلج أكثر من متر ولا يتوقف لأيام. لن تنفع أي إجراءات وإعلانات طوارئ في حماية جزء كبير من الناس من الموت بردًا أو لأسباب أخرى. إنها “نهاية عالم” بالنسبة للمتأثرين الذين سيعتقلهم العجز المطلق. وكذلك التسونامي أو الفيضانات القاتلة. وإذا تكاثرت هذه الظواهر، وستفعل بسبب قراراتنا البيئية، فإنها ستؤشر على “نهاية العالم”، بمعنى انتفاء شروط البقاء، على نطاقات أوسع. ولذلك، فإن التفكير في “نهاية عالم” دنيوية هو الضرورة العملية الحتمية، والتي لا تتعارض بالضرورة مع أي تصورات أخرى قدَرية. ولا ينبغي أن تكون القدَرية سببًا لإبقاء منطقتنا متخلفة عن العيش الواقعي في العالم وتحمل مسؤوليتنا عن قراراتنا وإدراك عواقب قرارات الآخرين. إننا مسؤولون، على المستوى البيئي، أو حتى النووي، وأدوارنا في الحرب والسلم، عن تأجيل أو تسريع “نهاية العالم”، بأي من أشكالها المتصوَّرة.