السنة والشيعة والزهاد واليسار اتفقوا عليه على نحو نادر

السنة والشيعة والزهاد واليسار اتفقوا عليه على نحو نادر

علي سعادة

من أكثر الشخصيات التي تركت أثرا لدى الكتاب والمفكرين شخصية الصحابي أبو ذر الغفاري، فهو عند اليسار يرمز لأول ثائر اشتراكي دعا إلى اقتسام الثروات، وعند الزهاد والمتصوفة رمز للزهد في الدنيا والتواضع، وعند مذهب الجماعة (السنة) صاحبي جليل ومعلم وراوي للحديث، وعند الشيعة من أوائل أتباع الإمام علي.

ويكاد يتفق جميع هؤلاء على تفاصيل سيرته الذاتية بشكل مذهل !

وهو الذي قال فيه النبي قوله: "رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده".

حتى اسمه تضاربت حوله الأقاويل والحكايات، وأشهرها اسم جندب بن جنادة، لكنه عرف باسمه أبو ذر الغفاري.

عرف أبو ذر في الجاهلية بشجاعته فكان يغير بمفرده في وضح النهار على ظهر فرسه، فيجتاز الحي، ويأخذ ما يأخذ. ورغم مهنته تلك، كان موحدا، ولا يعبد الأصنام، وكانت مضارب قبيلته غفار على طريق القوافل بين مكة والشام، واشتهرت بالسطو على القوافل.

وقصة إسلامه فيها رويتان، الأولى تقول:

حين بلغته الأخبار بأن هناك من يدعو للتوحيد في مكة، تزود وقدم مكة، والتمس النبي وهو لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل، فاضطجع فرآه علي بن أبي طالب فعرف أنه غريب، فاستضافه ثلاثة أيام، ثم قال له، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئا أخافه عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي"، ففعل.

وانطلق يلحق به حتى دخل على النبي، فقال أبو ذر للنبي: أنشدني مما تقول، فقال له الرسول: ما هو بشعر فأنشدك، ولكنه قرآن كريم، فقال أبو ذر: أقرأ علي.

وسمع من قوله، فأسلم لوقته، ثم أمره النبي قائلا: "ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري"، فقال أبو ذر: "والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم"، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله"، فقام القوم إليه فأوسعوه ضربا حتى أضجعوه، وأتى العباس بن عبد المطلب، وصاح بهم ليمنع عنه، وقال: "ويلكم، ألستم تعلمون أنه من غِفار وأنه من طريق تجارتكم إلى الشام؟"، فأنقذه منهم.

يقول أبو ذر" فلما أن أصبحت الغد، رجعت، فقلت مثل ما قلت بالأمس، فقالوا : قوموا إلى هذا الصابئ، فصنع بي مثل ما صنع بالأمس، وأدركني العباس فأكب علي، وقال مثل مقالته بالأمس" .

 أما الرواية الثانية فقد رواها مسلم في "صحيحه" وتقول:

انطلق أبو ذر بعدها إلى قومه امتثالا لأمر النبي لدعوتهم إلى الإسلام، فلبى نصف قومه دعوته، وبقي نصفهم الآخر حتى هاجر النبي إلى المدينة المنورة، فأسلم بقية قومه.

يذكر أن النبي استعمله على المدينة لما خرج إلى غزوة ذات الرقاع وفي غزوة بني المصطلق، كما حمل أبو ذر راية قبيلته غفار يوم حنين، ولما انطلق النفير ليجمع الرجال للمسير إلى قتال الروم في غزوة تبوك، تحسس المسلمون المتخلفين عن الغزوة، حتى قيل: "يا رسول الله، تخلف أبو ذر"، وكان بعير أبي ذر قد أبطأ به، فأخذ متاعه، فجعله على ظهره، وخرج يغذُّ السير يتبع الجيش ماشيا، ونظر ناظر، فقال: "إن هذا لرجل يمشي على الطريق"، فقال النبي: "كن أبا ذر"، فلما تأمله القوم، قالوا: "هو والله أبو ذر"، فقال النبي: "رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده".

شارك أبو ذر في فتح الشام ، وشهد فتح بيت المقدس مع عمر بن الخطاب، وأقام في الشام، وتذكر بعض المصادر أن الخليفة عثمان بن عفان هو الذي نفاه إلى الشام، وكان أبو ذر يفتي الناس ويعلمهم أمور دينهم، وسببت حدته في فساد العلاقة مع معاوية بن أبي سفيان والي الشام، فكتب معاوية يشكوه إلى الخليفة عثمان بن عفان بأنه أفسد عليه الشام، فطلبه عثمان.

لم يستطع أبو ذر أن يتأقلم مع مجلس عثمان بن عفان، فخرج أبو ذر للإقامة في الربذة على أطراف المدينة. بينما ذكر ابن هشام أن عثمان نفاه إلى الربذة.

وقد حظي أبو ذر بمكانة خاصة عند النبي، فقال فيه "ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر"، ويروي عن النبي قوله: "من سره أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم، فلينظر إلى أبي ذر". وقال عنه علي بن أبي طالب: "لم يبق أحد لا يبالي في الله لومة لائم، غير أبي ذر"، ثم ضرب بيده على صدره وقال: ولا نفسي.

كان أبا ذر حريصا على التعلم من النبي، فكان يكثر سؤاله، حتى أصبح مقدما للفتوى على عهد أبي بكر وعمر مما دعا الخليفة عمر لأن يفرض له فرضه كأهل بدر رغم أنه لم يشهدها.

وفي خلافة عثمان، رأى من إقبال الناس على الدنيا وانغماسهم في الترف ما دفعه لاستنكار ذلك، وكانت له دعوة يحث بها الأغنياء على مواساة الفقراء والجيران والتنازل لهم عما زاد عن الحاجة، حتى ولع الفقراء به وأوجبوه على الأغنياء، حتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس.

 فشكا معاوية بدوره إلى الخليفة عثمان فاستقدمه عثمان إلى المدينة ودار بينهم حوار، قال عثمان: يا أبا ذر، ما لأهل الشام يشكون ذربك؟ أي كثرة كلامك، فأخبره أبو ذر: بأن الأغنياء تزيد أموالهم عن حاجتهم والفقراء في حاجة.

كان يرى أنه لا يجب الاكتفاء بالزكاة الواجبة والأمة فيها جياع وفقراء لا يجدون ما يسد حاجتهم. فأبو ذر المعتمد في دعوته على الأدلة القرآنية والأحاديث النبوية التي يراها ملزمة للناس أن يخرجوا عما زاد عن حاجتهم ولو أدوا زكاة أموالهم فهذا زهد ودرجة من التقرب إلى الله.

كان لأبي ذر نظرة خاصة في المال، فكان يعتبر جميع الأموال التي يبقيها الإنسان عنده فوق يوم واحد كنزا يعاقب عليه يوم القيامة، فكان ينفق كل يوم ويعيش كفاف يومه.

لما حضرته الوفاة، أوصى امرأته وغلامه، فقال: "إذا مت فاغسلاني وكفناني، وضعاني على الطريق، فأول ركب يمرون بكم فقولا: هذا أبو ذر". فلما مات فإذا بركب من أهل الكوفة فيهم عبد الله بن مسعود، فسأل: "ما هذا؟"، قيل جنازة أبي ذر، فبكى ابن مسعود، وتذكر قول النبي. فصلى عليه، وألحده بنفسه.

وتقول رواية أخرى على لسان أم ذر " لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيت، فقال أبو ذر: ما يبكيك؟ فقلت: ما لي لا أبكي وأنت تموت في فالة من الأرض، ليس عندي ثوب يسعك كفنا قال: أبشري ولا تبكي، فإني سمعت رسول الله يقول لنفر أنا فيهم: ليمتن رجلا منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابةُ (جماعة) من المسلمين، وليس أحد من أولئكَ النفر إلا وقد مات في قرية وجماعة، فأنا ذلك الرجل، فأبصري الطريق".

وبعد ذلك أصبحت صحراء الربذة، المكان الذي نفي فيه أبو ذر مدينة وفي هذه المدينة جامع الصحابي الجليل الذي كان ملتقى لعلماء المسلمين وطالبي العلم.

كان أبو ذر زاهدا وعالما، قال عنه الذهبي في ترجمته في كتابه "سير أعلام النبلاء": "وكان رأسا في الزهد، والصدق، والعلم، والعمل، قوالا بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، على حدة فيه".

رحم الله أبا ذر الذي قال: "إذا ذهب الفقر إلي بلد قال له الكفر: خذني معك" و"لا تغش أبواب السلاطين، فإنك لا تصيب من دنياهم، إلا أصابوا من دينك أفضل منه"، وينسب له قول "عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه". لكن كثير من العلماء وكتاب السيرة يرون بأن القول ليس له.


تنويه.. يسمح الاقتباس وإعادة النشر بشرط ذكر المصدر (صحيفة أخبار الأردن الإلكترونية).