ما بين دبلوماسية اللقاحات ومنجل القمح
د. هايل عبيدات
تعتبر الحبوب وخاصة القمح والشعير من اقدم النباتات التي تم زراعتها قبل اكثر من ثمانية الف عام وتعتبر صناعة الخبز اول تطبيق للصناعات الغذائية , وبدأت صناعة الخبز في وسط اسيا وانتقلت الى منطقة البحر المتوسط من خلال بلاد ما بين النهرين و مصر وفي احد أجزاء مملكة سومر عام 6000 ق.م تم تحضير الخبز الذي يشبه الخبز الذي نراه اليوم وعثر باحثون في شمال شرق الأردن على بقايا منتفخة لخبز في موقد حجري يعتقد انه الاقدم قبل اكثر من 14الف عام وقبل اكتشاف الزراعة . و تاريخيا تشكل الحبوب اللبنة الأساسية في النظام الغذائي للإنسان على مدار العصور والقمح كان مستخدما في أوروبا و افريقيا والذرة في أمريكا والأرز في اسيا .
ويبلغ الإنتاج العالمي من الحبوب ما يقارب 1940 مليون طن ويشكل القمح 722 مليون متري طن ويبلغ قيمة الاستهلاك العالمي اكثر من 160 مليون طن متري من القمح بقيمة تعادل خمسين مليار دولار سنويا وتشكل روسيا وأوكرانيا ما نسبته 30% من مجمل الإنتاج العالمي وتستورد منطقة شمال افريقيا والشرق الأوسط (14 دولة) وبلدان القوقاز و وسط اسيا اكثر من 50% وقد تصل ل 80% من احتياجاتها من الحبوب من روسيا و أوكرانيا وتتأثر تجارة الحبوب والقمح تحديدا بعدة عوامل مناخية وجيوسياسية واجتماعية وتتعرض دوما لتقلبات سعرية واجتماعية كان اخرها في الربيع العربي قبل حوالي العشر سنوات حيث شهدت ارتفاعا قياسيا صاحبه بعض الاهتزازات الاجتماعية في بعض الدول , وجاءت الازمة الأوكرانية بتداعيات جديدة وشكلت تحديا جديدا ليس فقط لتلك الدول التي تعتمد على القمح الروسي والأوكراني بل لمعظم دول العالم نظرا لارتباط الغذاء وصناعة الغذاء بملف الطاقة ومدخلات الإنتاج الأخرى القادمة من روسيا إضافة الى الحصار اللاأخلاقي والمخالف للمواثيق الدولية المفروض من قبل أمريكا والغرب على الإنتاج الروسي , ولم تظهر المانيا و فرنسا وبقية الدول الأوروبية كبديل نظريا لمساعدة العالم في تخطي ازمة الغذاء بل وغرقت في الازمة , وعلى سبيل المثال يبلغ انتاج المانيا ما يقارب 12 مليون طن سنويا تستهلك 20 % من انتاجها و 58% لتعليف الماشية و 9% لإنتاج الطاقة , ولم تتمكن البدائل الأخرى سواء من أمريكا وأستراليا او أمريكا اللاتينية من تعويض النقص وسد الفجوات الغذائية لأسباب عديدة أهمها ارتفاع السعر وتكاليف الشحن والنقل والتامين , وكذلك اغلاق موانئ البحر الأسود وتامين سلامة النقل البحري الآمن فيه لتشكل الضربة القاصمة ودخول ازمة الغذاء في نفق يهدد السلم المجتمعي لجميع دول العالم الى ان جاء اتفاق إسطنبول الأخير لنرى جميعا ضوءا في نهاية النفق ولكن مع الحذر الشديد نظرا لوجود قوى دولية تفردت بالقطبية لعقود من الزمن ولا تستطيع القبول بالشراكة مع الاخرين وقد تلجا مستقبلا لعرقلة هذا الاتفاق او تشجيع إيجاد خروقات في الجدار واطالة امد الازمة خاصة في ظل الانعكاسات الجيوسياسية للازمة على المزاج السياسي والانتخابي في أوروبا و وقوف فصل الشتاء على الأبواب وعدم وجود جدول زمني لنهاية الحرب.
والسؤال الذي يطرح نفسه هل كمية الخمسين مليون طن والتي تشكل ما قيمته 10% من احتياجات ثلاثة مليار نسمة في العالم و التي تضمنها اتفاق إسطنبول يحل ازمة الغذاء العالمية؟؟ والجواب هو فقط يساعد في ترحيل الازمة للشهور الأربعة القادمة خاصة في ظل تراجع المحصول بنسبة اكثر من 38% والتغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة والحرائق والفيضانات في أوروبا وامريكا إضافة الى اضطراب سلاسل النقل وتعطل حركة النقل البحري والصعوبات التي تواجه اكثر من 90 سفينة متأثرة حاليا بسلامة الامن البحري في مياه البحر الأسود, ومن هنا تأتي أهمية انتهاء فصول الازمة وتحويل ساحات الحرب في جميع انحاء العالم الى حقول جديدة للزراعة لتشكل الخطوة الأولى في نهاية الازمة .
و تبدو العودة الى البدائل الوطنية والقطرية والتعاون والتكامل الإقليمي إعادة ترتيب الأولويات وادرة الازمة على أسس مهنية وعلمية وبعيدا عن أسلوب الفزعة تجنبا لمزيدا من الضغوطات على ملف الامن الغذائي
إضافة الى إعادة ضبط بوصلة الاستثمار العربي في الزراعة والصناعات الغذائية وخاصة في الدول التي اهملت زراعة القمح وتلك المستوردة للحبوب والتي تتمتع بالبيئة الزراعية المناسبة وان تكون تلك الدول السباقة في معالجة حالة انعدام الامن الغذائي وتداعيات ازمة الغذاء وموجات ارتفاع الأسعار وقد تكون هي مفتاح الحلول الانية والمستقبلية للأجيال القادمة.