عن الإمام البدر اليمني وحال قادة منظومة التعليم الجامعي الأردني
د. عبدالحكيم الحسبان
ذات يوم من ستينيات القرن الماضي، قرر المحيطون بالإمام البدر الذي كان يدير شؤون اليمن السعيد آنذاك، أن يعرفوا العالم الخارجي ببلادهم، فارتأوا أن يتم اللجوء لماكنة الإعلام الغربي لتقوم بالمهمة، فكان القرار بأن يتم دعوة أحد الصحافيين الغربيين ليلتقي بالإمام البدر الذي كان في حينها رأسا للدولة، وخير من ينطق باسمها وشؤونها في حينها. جرى اللقاء، وكان السؤال الأول الذي استهل به الصحافي الغربي لقائه، والذي بناءا على أجابته سوف يكون بإمكان الصحافي أن يطرح سلسلة من الأسئلة عن الوضع اليمني، فكان سؤال الصحافي الأول للإمام البدر هو عن عدد سكان هذه البلاد التي تسمى باليمن. كانت دهشة الصحافي كبيرة حينما كان جواب الزعيم اليمني حينها أن عدد سكان اليمن يتراوح بين مليون وعشرين مليونا.
حال الإمام البدر في اليمن في ستينيات القرن الماضي ربما بات هو حال كثير من رؤساء جامعاتنا، كما حال قيادات ملف التعليم العالي الجامعي في الأردن. ويتعلق الأمر هنا بواحدة من أساسيات ومحاور نجاح العملية التدريسية، بل يتعلق الأمر بنجاح الجامعة والمجتمع والدولة في تحويل من يدخل إليها طالبا للعلم إلى مواطن وإلى كائن ينتمي إلى كائنات الدولة ومخلوقاتها. وأقصد هنا وأعني، عدد الطلبة في الصف الدراسي الواحد في جامعاتنا، التي بات حال صفوفها الدراسية يشبه حال سكان اليمن الذي لم يستطع الأمام البدر أن يعرف عددهم، بنفس الكيفية التي لم يعد بها رؤساء جامعاتنا، أو بعضهم على الأقل يعرفون ما هو عدد الطلبة في الصفوف الدراسية داخل جامعاتهم.
تقول أكثر الدراسات صرامة وعلمية أن العدد المثالي للصف الدراسي هو بحدود الستة عشر طالبا في الصف الواحد، ويبقى العدد مثاليا ومواتيا إن زاد قليلا أو نقص قليلا، بمعنى أن نقص إلى أربعة عشر طالبا أو زاد ليصل إلى 18 طالبا. فالعملية التعليمية، التي هي ليست مجرد عملية تعليمية لمحتوى معلوماتي يراد للطالب أن يخزنه في عقله، بل هي عملية تربوية وقيمية وأخلاقية وعاطفية تكون في أقصى درجات فعاليتها ونجاعتها حينما يدخل المدرس على صف فيه هذا العدد من الطلبة، كما أن الطلبة أنفسهم يشعرون تتوافر لديهم أفضل الشروط لعمليات التعلم والاكتساب والتفاعل حينما يكونون في صف يشتمل على 15 زميلا.
ثمة علاقة كبيرة بين قوانين الكم والعدد، وقوانين النوع . ذات يوم درس أحد علماء الاجتماع الألمان قوانين الأرقام والأعداد في علاقتها بالتفاعلات الاجتماعية، كما في علاقتها بنسق المشاعر التي يتم توليدها، كما في علاقتها بنوع الاتصال وفعاليته الذي يجري داخل المجموعة. فالفرد وحيدا، هو في التفكير والمشاعر وفي الحالة النفسية والشعورية والعاطفية، يختلف كثيرا عن الفرد حينما يجتمع مع فرد آخر حيث يتحول الفرد إلى كائن إجتماعي، وحيث ينتقل من عالم الفردية إلى عالم الجماعة، وإلى ما هو اجتماعي. وفي حين تكون مشاعرنا وأحاسيسنا ذات نمط معين حينما نكون في جلسة تقتصر على اثنين، فإن مستوى النقاش والتفاعل المتاح الذي يتيحه العدد 2 ينقلب جذريا حينما يكون العدد ثلاثة أو أربعة أو خمسة.
الدراسات التي خلصت إلى أن الرقم 16 هو الرقم المثالي لعدد الطلبة في الصف الواحد وفي المحاضرة الواحدة لم تبنى على معطيات في الهواء، ولم تختلق رقما غير ذات معزى، بل هي بنيت على وقائع علمية متينة. فالعدد 16 يتيح مستوى عال من التفاعل داخل الصف، كما يتيح حوارا بين الطلبة والاستاذ، كما بين الطلبة أنفسهم. كما يتيح هذا الرقم شعورا بالأمان لدى الطلبة الذي يشعر كثير منهم بالخجل من فكرة المشاركة ومن فكرة إسماع صوته، فحين يكون الرقم كبيرا يتردد الطالب ويشعر برهاب الجماعة من قول أي فكرة قد تجعله محط سخرية لعدد كبير من الناس.
العدد 16 يجعل الفرد يتجاوز الحيز العائلي حيث الاب والام والاخوان والاخوات، وحيث العائلة هي في الغالب تشتمل على ستة او سبعة من الاعضاء، فالرقم 16 يعطي شعورا للطالب أنه ليس داخل حلقة عائلية، وأن عليه أن يتصرف بصورة حميمية، وكأنه داخل عائلته، بل إن عليه بالتالي أن يتصرف مع المجتمع الكبير وحيث هناك أغراب يبعدونه عن الحميمية التي يعتاد عليها داخل بيئتة العائلية، كما أن العدد 16 هو بعكس العدد 4 أو خمسة داخل الصف، الذي سيعطي للطالب إحساسا أنه مرئي كثيرا، وأنه خاضع للنظرات المتواصلة لعيني لمدرس ولعيون الطلبة، وهو ما سيشعره بالاختناق والضغط النفسي، مما يفقده كثيرا من عناصر عمليات الاكتساب والتفاعل والبناء الناجحة. في عمليات التعلم والتربية التي تجري داخل الصف الجامعي، فان الرقم أربعة هو خانق وضاغط، وهو بالتالي مشوش ومدمر للعملية التربوية، كما أن العدد ثلاثين أو أربعين أو خمسين، فما بالك بالعدد مئة أو مئتين الذي هو حتما مدمر وناسف لأي عملية تعلم وتواصل ناجحة.
في الحال الذي وصلت اليه جامعاتنا، وحيث تسللت ذات يوم عقلية الدكنجي الشاطر إلى عالم التعليم الجامعي، لتنتشر ولتضرب وبعمق واحدة من أساسيات وبدهيات التعليم الجامعي، والحديث هنا عن العدد المعياري أو المثالي أو النموذجي الذي يضمن أفضل علميات للتعلم والتواصل والاكتساب داخل الصف الدراسي. ففي جامعتنا وفي حال تم طرح السؤال حول ما هو عدد الطلاب في الشعبة الواحدة؟ فان نظرة واحدة إلى قوائم العبء الدراسي للشعب الدراسية، سيقول لنا ما قاله الإمام البدر اليمني ذات يوم؛ أي أن الجواب سيكون أن أعداد الطلبة في الشعبة الواحدة في هذه الجامعة يتراوح بين 3 طلاب و 300 طالب (ثلاثماية طالب). وفي حال تم طرح السؤال الإضافي التالي، متى يكون عدد الطلبة مثاليا لتكون هناك شعبة وليكون مساق وليكون هناك صف دراسي، فان هناك إجابتان ضروريتان ومتلازمتان. بداية الجواب ستقول لك أن الخطة الاستراتيجية للجامعة تسعى لان يكون عدد أعضاء هيئة التدريس مقابل أعداد الطلبة هي واحد إلى عشرين، ما يعني أن عدد الطلبة في الشعبة الواحدة سيكون بحدود العشرين، ولكن نهاية الجواب ستقول لك أن العدد المثالي على ارض الواقع وفي عالم الممارسة التي تجري منذ سنوات في الجامعات، هو عدد متفاوت كثيرا وبنفس تفاوت أرقام الإمام البدر حين تحدث عن عدد سكان اليمن السعيد.
فإذا كانت إدارة الجامعة تريد أن تملأ العبء التدريسي للأستاذ في الفصلين الإجباريين الأول والثاني، فان عدد ثلاثة طلاب هو رقم مثالي لفتح شعبة ولفتح الصف، وأما أذا كان الحديث عن الفصل الصيفي وحيث يتقاضى الاستاذ مبلغا إضافيا لقاء تعليمه للصف، فإن الحد الأدنى للطلبة سيكون أحيانا عشرين طالبا، وفي أحيان اخرى ثلاثين طالبا، وفي أحيان أخرى خمسين طالبا. وأما على أرض الواقع، فان هناك بعض الشعب التي يصل عدد الطلبة فيها إلى مايتين وخمسين طالبا.
في هذه الأعداد المتذبذبة وبصورة مرعبة، تختفي الخطط الإستراتيجية للتعليم العالي في الأردن، كما تختفي الخطة الإستراتيجية للجامعة ذاتها، ولا أحد من أولى الامر يود أن يسمع كلمة عن جامعات هارفارد أو ييل أو كامبردج وحيث أعداد الشعب هي بحدود العشرين في الصف الواحد، وإن كنا نسمع بين الحين والأخر عن رغبة الرئيس في تحسين تصنيف الجامعة على صعيد خريطة التعليم الجامعي العالمي.
في موضوعة أعداد الطلاب وتكدسهم حينا في بعض الصفوف، كما في خلو القاعات منهم حينا، لكم أن تتخيلوا سير العملية التدريسية حينما يطلب من طالب بعمر الثمانية عشر عاما أن يدخل قاعة أحد المحاضرات وحيث يحتشد جمهور يتكون من المئات، كما لكم أن تتخيلوا مشاعر الرهاب والخوف التي تنتاب البعض وهم يدخلون قاعات تحتشد بهذه الجموع، ثم يقتضي الحال من الطالب ذاته أن ينتقل بعدها إلى قاعة أخرى يجلس فيها فقط الأستاذ وحيدا، لان عدد طلاب الشعبة هو فقط ثلاثة، وقد حدث وأن تغيب اثنان منهم عن محاضرة هذا اليوم.