منتدون يناقشون تقويم تعليم اللغة والتعددية الثقافية في النظم التعليمية
عقد مجمع اللغة العربية الأردني، يوم الخميس الموافق للتاسع عشر من أيّار (مايو) الحالي، ندوةً حواريةً وجاهيةً، حاضر فيها كل من: الدكتور محمد خليل الحاج خليل حول مضامين كتاب (Handbook of Research in Second Language Teaching and Learning: Volume III) "كتيّب البحث في تعليم اللغة الثانية وتعلّمها– المجلد الثالث"، والأستاذ الدكتور أحمد بطاح حول مضامين كتاب (Culturally Sustaining Pedagogies) "الطرائق التربوية في حفظ الثقافة وإدامتها"، وأدار الندوة عضوُ المجمع الأستاذ الدكتور محمود السرطاوي، بحضور معالي الرئيس الأستاذ الدكتور خالد الكركي، وعطوفة الأمين العام الأستاذ الدكتور محمد السعودي، وعدد من الأعضاء العاملين، وجمهور من المفكرين والمهتمين.
أوضح الحاج خليل أنّ الكتاب المؤلف من خمسة وثلاثين فصلاً، يشتمل على أبحاث ونظريات في اللغة وتعليمها وتعلمها، لعدد من الخبراء والمختصين، وليس في الكتاب الكثير من طرائق التدريس مما لا يعرفه أبناء بلادنا المختصون بتعليم اللغة العربيّة وتعلمها، وقد عرض الحاج خليل بعض ما يتصل بمهارات اللغة العربية: القراءة، والكتابة، والإصغاء، والقواعد، والتعبير، مما يركز عليه الباحثون وخبراء اللغة هذه الأيام.
وتوقف عند أمر جوهري ذي صلة قوية بالعملية التربوية الخاصة بتعليم اللغة العربية وتعلمها، ذلك هو موضوع "الاختبار والتقويم" بجوانبه المختلفة، وهو الموضوع الذي يحظى هذه الأيام ببالغ الاهتمام من المختصين باللغة والباحثين والخبراء كما يبدو في أدبيات التربية الخاصة بتعليم اللغة.
وبيّن أنّ عملية التقويم السليمة أكبر من مجرد العلامات والدرجات، فهي عملية يمكن توظيفها أداةً في دعم وتحسين تعلم الطلاب، ولذلك يجب على المعلمين أن يفكروا جدّياً في الطرائق التي يمكن استخدامها في بنود تقويمهم، وفي المهمات التي تؤثر في إنجازات طلابهم المستقبلية، بوساطة القدرات اللغوية، ومن المفيد أن يعطوا المتعلمين واجباً حقيقياً حياتياً يتوافق مع استعمال اللغة بشكل سليم؛ بتبيان جوانب قوتهم وضعفهم، وما الذي يجب أن يفعلوه لتطوير قدراتهم.
وقال إن عملية التقويم يجب أن توفر للمعلمين الاتصال اللازم بالمواد وبالتعليم الذي لا يقتصر على تحسّن أداء طلابهم في عملية التقويم، بل يرقى بتعلمهم وتطورهم. وأكد أنّ التعلم الناتج عن عملية التقويم، لا يحدث إلا عندما يعامَل المتعلمون كمشاركين في العملية التعليمية، ويتم ذلك من خلال بناء الوعي لدى المتعلمين، بمناقشتهم واستشارتهم بشأن طرائق تقويمهم. فإذا لم يتم إدماج المتعلمين في عملية التقويم، تصبح العملية قليلة المعنى وقليلة الفائدة.
وتحدّث بطاح عن الكتاب المكون من خمسة عشر فصلاً، الذي يطرح تساؤلات عن "غرض التمدرس" أو التعليم في مجتمعات متغيرة، ويعمق مفهوم الحفاظ على الثقافة وإدامتها، التي تكرّس في النهاية من خلال أساليب لغوية وتعليمية كوسيلة للتغيير المجتمعي الإيجابي.
وأشار إلى أنّ المؤلفين المشاركين في تأليف الكتاب يفترضون أن المدرسة يجب أن تكون مكاناً للحفاظ على الممارسات الثقافية للمجتمعات المحلية، وأن المتصفح للفصول المختلفة من الكتاب يجد أمثلة ذات أرضية نظرية لكيفية قيام التربويين والمفكرين بتدعيم مجتمعات السود، واللاتينيين، والسكان الأصليين، والآتين من جزر الباسيفيكي وجنوب أفريقيا، والطلبة المهاجرين كجزء من جهد جماعي لتحقيق العدالة في المجتمعات المتغيرة.
ولفت إلى أنّ الكتاب يوضح بصورة جلية كيف يمكن للمعلمين أن يدرسوا بإخلاص، وشجاعة، ومهنية، وروح نقدية، وأنّ مثل هؤلاء المعلمين الذين يؤمنون بالعدالة والمساواة سوف يقدرون الطروحات والمقاربات الواردة في الكتاب.
وذكر أن الفكرة المحورية في الكتاب هي أنّ الثقافة السائدة والمقدّرة في الولايات المتحدة الأمريكية هي ثقافة الأمريكي الأبيض الذي ينتمي إلى الطبقة المتوسطة، وأن الثقافات الأخرى كالسود ولاتينيي الأصل ومجتمعات المهاجرين هي ثقافات دونية، وبالتالي فإن المؤسسة التربوية تعمل على تكريس الثقافة المشار إليها آنفاً والتقليل من شأن الثقافات الفرعية الأخرى، ومن هنا يأتي واجب المدرسة بمديرها، ومعلميها، ومناهجها، ونشاطاتها في عدم ازدراء هذه الثقافات الفرعية واحترامها ودمجها في الثقافة العامة لتحقيق مبدأ العدالة وصولاً إلى مجتمع منصف يحقق المساواة للجميع في مجتمع متغير.
واختتم بطاح بتساؤلات عديدة: ماذا يعني لنا هذا الكتاب؟ وهل الطروحات التي وردت ذات معنى في السياق العربي بشكل عام والسياق الأردني بشكل خاص؟ وقال في معرض الإجابة إنّ المجتمع العربي ككلِّ مجتمعات العالم فيه تعددية ثقافية لا يمكن إنكارها، فهناك الأكراد في العراق، والمسيحيون في مصر، والأمازيغ في المغرب العربي، والشيعة في الخليج العربي، الأمر الذي يحتّم أن تحترم ثقافاتهم، وأن يعترف بخصوصيتهم العرقية والدينية والمذهبية، ولعل النظم التعليمية العربية هي أكثر الوسائل نجاعة في الاعتراف بهذه التمايزات، وذلك من خلال تضمينها في المناهج والأنشطة والمواقف التعليمية المختلفة، وهذا لا يعني بالطبع إهمال التركيز على الثقافة العربية الإسلامية السائدة في مختلف المجتمعات العربية، بل يعني بالضبط عدم إهمال الثقافات الفرعية الأخرى.
وأوضح بطاح أن ما ينطبق على الوضع العربي بشكل عام ينطبق على الوضع الأردني أيضاً، ففي الأردن ثقافات فرعية غير قليلة، إذ يعيش فيه الشركس والشيشان، والمسيحيون، والمهاجرون، واللاجئون من مناطق عربية عديدة؛ الأمر الذي يفرض الاعتراف بهذه الثقافات، والسماح لأتباعها بالتعبير عن أنفسهم من خلال المواقف التربوية التي تبرمجها المؤسسة التربوية في صورة مناهج، أو أنشطة تعليمية، أو مواقف تعليمية مختلفة، وهذا لا يعني بحال من الأحوال الغض من محورية الثقافة العربية الإسلامية السائدة في المجتمع الأردني، فهي الجوهر الذي يخلق القاعدة، والمشترك الأعظم الذي يتحلق حوله جميع المواطنين في النهاية.
وكان رئيس الندوة الدكتور السرطاوي قد قال في البداية: "إن اللغة العربية لغة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ولغة مصادر التشريع، فلا اجتهاد بدون المعرفة التامة باللغة العربية، وهي لغة الصلاة، ولغة كثير من العبادات عند المسلمين، لغة مقدسة محفوظة من عند الله تبارك وتعالى، معرفتها فرض واجب لأن الإسلام لا يفهم إلا بها، ولتعلمها فضائل كثيرة، ولم تعد اللغة العربية خاصة بالعرب وحدهم بل أضحت لغة عالمية يطلبها جميع المسلمين في العالم، وتحتل اللغة العربية المركز الرابع بين اللغات العالمية، وهي من أكثر اللغات العالمية انتشاراً".
وتابع السرطاوي: "إن تعلم اللغة العربية لغير الناطقين بها يعد مجالاً مهماً لكثرة الطلب وقلة المجهود أو الجهود المبذولة من جانب آخر، ولها فوائد جمة ترجع على الأمة العربية بالخير من النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولذا لا بد أن نتساءل لماذا تهتم الأمم بلغاتها مع أن هذه اللغات لغات قومية وليست من اللغات العالمية كما هي العربية، وأما العرب فإنهم لا يهتمون بلغتهم مع أنها لغة عالمية مقدسة، وتنادى مجمع اللغة العربية الأردني في ندوات كثيرة إلى ضرورة تعلم أو تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها وإجادة هذا التعليم، وتأتي هذه الندوة في هذا المضمار بقصد مناقشة محتوى كتابين مهمين في هذا المجال".
وجرى نقاش موسع بين المتحدثين في اللقاء والحضور حول القضايا التي طُرحت، وشارك بالمداخلات كل من: الأستاذ الدكتور محمد عصفور، والأستاذ الدكتور عبدالفتاح الحموز، والأستاذ الدكتور علي محافظة، والأستاذ الدكتور سمير الدروبي، والدكتورة خولة النوباني، والباحثة أسيل الضلاعين، وعدد من الحاضرين.
وقال الدكتور عصفور في مداخلته إننا نحاول في الترجمة أن نجد المقابل العربي الصحيح للكلمة الأجنبية، وأن الدرس المستخلص من كتاب "الطرائق التربوية في حفظ الثقافة وإدامتها" يصعب تطبيقه على البيئة العربية.
وعلق الدكتور الحموز على مناقشة الكتابين بأنّ الهدف الرئيس من لجنة المصطلحات والعلوم الإنسانية التي أشرفت على إطلاق مشروع الندوات العلمية هو أن نقدم ملخصاً شافياً دون غياب المصطلح، والوقوف عند بعض المصطلحات وما يقابلها من مصطلحات في العربية أو ترجمتها، وأشار إلى صعوبة تطبيق ما ورد في الكتابين على المجتمع العربي ولا سيما اللغة العربية لأنها تختلف اختلافاً كلياً عن اللغات الأجنبية بنحوها وصرفها ومفرداتها، ودعا إلى إجراء دراسة على المجتمع العربي وتدريس اللغة العربية فيه.
وعقب محافظة على ما جاء في محاضرة الحاج خليل حول القراءة بأن القراءة بصوت عالٍ تساعد كثيراً في الحفظ والفهم والنطق السليم للغة، كما تساهم أيضاً في إيجاد ملكة في القواعد، وتابع بما جاء في محاضرة الدكتور بطاح حول الثقافات الفرعية مشيراً إلى قانون التربية والتعليم قديماً الذي كان يفرض على جميع المدارس الموجودة في المملكة أن تتبنى المناهج الأردنية، وهذه مشكلة كبرى نعاني منها: وجود مدارس مختلفة تدرس المناهج الأمريكية والبريطانية وغيرها ولا تلتزم بالمناهج الأردنية، وعندما يذهب الأبناء إلى هذه المدارس فنحن نساهم في تشكيل ثقافات مختلفة على حساب الثقافة الوطنية.
وأشار الدروبي في مداخلته إلى أهمية مناقشة كتب تخدم الثقافة العربية مؤيدًا بذلك الدكتور عصفور، فالاختلافات العرقية والمذهبية والطائفية أوجدها المستعمر الغربي الحديث، وركز على ما ذكره محافظة من ضرورة ضبط فوضى إنشاء المدارس الأجنبية بما تشكله من خطر كبير على البلاد وثقافة أبنائها.
وقالت الضلاعين -وهي ممثلة عن جمعية المحتوى العربي الرقمي- في تعليقها على مهارة الاستماع، إن الدماغ يكتسب اللغة عن طريق الاستماع ومن الواجب توظيفه في الحصص الدراسية، فكيف لنا أن نوظف مهارة الاستماع في التعليم التقليدي وتعلّم اللغات.
وقالت النوباني إننا نشعر دائماً بالحاجة إلى الاطلاع على الكتب الأجنبية للوصول إلى نظرة شمولية وليس بالضرورة أن تكون ملزمة لنا في التقنيات الحديثة التي نوظفها في تعليم اللغة كلغة ثانية، وما هو لافت في محاضرة الدكتور بطاح في بعض التقنيات المستخدمة والموصى بها من الكتاب توظيف النمط الغنائي وهو بالفعل ساهم في المجتمع الأمريكي بأن يكون هناك شيء مساند مجتمعياً لخدمة اللغة العامية للسود التي كانت منتقدة وما زالت للآن، وقالت: "بحكم معرفتي بالمجتمع الأمريكي بأنه عندما يريد أن يدمج المهاجرين بالمجتمع هناك لكل ولاية تقريباً أكثر من مؤسسة لا ربحية تدعمها الحكومات من أجل تطويع اللغة وتسهيلها بالنسبة للمهاجرين وبالتالي دمجهم بالمجتمعات المحلية، وأكدت أهمية وجود تقنيات حديثة لإيصال اللغة العربية لغير الناطقين بها، وأوصت بضرورة متابعة مناقشة الموضوع بالاطلاع الشامل على الوسائل والتقنيات الحديثة المرتبطة بالتكنولوجيا والاستفادة منها بما يتناسب مع بيئتنا العربية".
وفي الختام تحدث رئيس المجمع الأستاذ الدكتور خالد الكركي شاكراً لجان المجمع التي عملت على تنظيم هذه الندوة المتخصصة العميقة، وإحياء نشاطاتها من جديد، تجسيداً للدور الأساسي للمجمع بفتح آفاق علمية ومعرفية متنوعة، وأشار إلى العلاقة بيننا وبين اللغة العربية ونحن أبناء هذه اللغة، وإلى أن المشكلة في الطبقات التي انقلبت على اللغة العربية، فهناك من يعتز بأنه لا يعرف عنها شيئاً، علاوة على محاربتها في شتى المجالات، ولفت إلى الدور الأساسي الذي يجب أن تضطلع به وزارة التربية والتعليم، وأن كل معلم هو معلم لغة عربية، فكل معلم يجب أن يتقن اللغة العربية السليمة، وأكد على ما جاء به قانون حماية اللغة العربية رقم (٣٥) لسنة ٢٠١٥، الذي يتضمن العديد من النصوص القانونية التي تعزز من مكانة اللغة العربية، ولفت إلى امتحان الكفاية في اللغة العربية وهو من أفضل الامتحانات في العالم العربي، ويأتي استناداً لأحكام قانون حماية اللغة العربية وتنص المادة العاشرة منه على أنه: "لا يعين معلم في التعليم العام أو عضو هيئة تدريس في التعليم العالي أو مذيع أو معد أو محرر في أي مؤسسة إعلامية إلا إذا اجتاز امتحان الكفاية في اللغة العربية…"، وأشار إلى بعض التحديات التي تواجه المجمع وإذاعته في سبيل الحفاظ على الموروث اللغوي والثقافي وحمايته من التشويه.