مدفأة تخنق الأردنيين.. تربك السوق.. وتتسبب بتدخل حكومي
تحولت الحوادث القاتلة الناتجة عن استخدام المدفأة الأخيرة في المنازل الأردنية إلى نمط متكرر يفرض سؤالًا جوهريًا ومقلقًا، وهو لماذا نتحرّك دائمًا بعد وقوع الكارثة، لا قبلها؟... ولماذا بات التحذير المتأخر هو السقف الأعلى للاستجابة الرسمية، حتى حين تكون الأرواح هي الثمن؟.
وفاة شاب في التاسعة عشرة من عمره، وقبلها حالات مماثلة، لا يمكن اختزالها في إطار سوء استخدام أو عدم تهوية، بقدر ما تفتح الباب واسعًا أمام مساءلة الجهة الرقابية الأولى المسؤولة عن ما يدخل إلى السوق المحلي، وعلى رأسها وزارة الصناعة والتجارة، بوصفها الحارس المفترض على سلامة المنتجات المتداولة.
المدفأة التي تحصد الأرواح، تعد نتيجة مسار كامل بدأ من المصنع، ومرّ عبر لجان فحص وترخيص، وانتهى بمنتج معروض في السوق على أنه آمن وقابل للاستخدام، وهنا، لا يكون الموت إلا نتيجة مباشرة لخلل عميق في منظومة الرقابة، أو لتساهل، أو لثغرة، أو لافتراض خاطئ بأن التحذير اللاحق يكفي لتبرئة الذمة.
تشكيل فريق حكومي للفحص والتحقيق خطوة ضرورية، لكنها في حدّها الأدنى، لأن جوهر القضية لا يكمن فقط في تحديد سبب العطل التقني، وإنما في مساءلة الإطار الذي سمح بوجود هذا المنتج أصلًا، وفي معرفة ما إذا كانت اختبارات السلامة قد أُجريت وفق معايير صارمة، أم وفق إجراءات شكلية لا تصمد أمام واقع الاستخدام الفعلي داخل منازل مغلقة، وبيئات فقيرة بالتهوية، ووعي محدود بالمخاطر.
الأخطر من الحادثة نفسها هو نمط التعامل معها؛ إذ يُعاد إنتاج المشهد ذاته كل مرة: ضحايا، ثم تحذيرات، ثم لجان، ثم نسيان تدريجي… إلى أن يقع الحادث التالي، وهذا النمط لا يعبّر عن نقص في القوانين بقدر ما يكشف خللًا في تطبيقها، وفي فلسفة الرقابة التي ما تزال تميل إلى ردّ الفعل بدل المنع المسبق.
الرقابة الحقيقية تقاس بعدد المنتجات التي لم تصل أصلًا إلى أيدي المواطنين لأنها فشلت في اجتياز معايير السلامة، لا في إصدار البيانات، والمسؤولية لا تتوقف عند المصنع أو التاجر، وإنما تمتد إلى كل جهة منحت الموافقة، أو جددت الترخيص، أو اكتفت بتوقيع ورقي دون اختبار واقعي صارم.
ما حدث يعد إنذارًا قاسيًا بأن السلامة العامة لا تحتمل المجاملات، ولا التسويات، ولا الافتراضات المريحة، فحين تتحول أدوات التدفئة إلى أدوات موت، يصبح الصمت شراكة، والتأخير إدانة، والاكتفاء بالتحذير بعد الفاجعة إخفاقًا لا يمكن تبريره.

