جاسوس في قلب طهران: عندما يأتي الاختراق من بيت الحرس الثوري
ليست قصة محمد حسين تاجيك مجرد حكاية تجسس عادية، ولا رواية فردية يمكن وضعها في خانة المبالغات أو الخيال الاستخباري. ما كشفه تحقيق مجلة “ذي أتلانتيك” يضعنا أمام مشهد أكثر خطورة: اختراق عميق في قلب المنظومة الأمنية الإيرانية، لا يأتي من هامش الدولة، بل من داخل عائلتها التي تمثل القوة الصلبة، حيث تتداخل الاستخبارات مع الحرس الثوري، والولاء مع السلطة.
تاجيك، الضابط الرفيع في وزارة الاستخبارات والأمن، لم يكن موظفاً عادياً ؛ فهو الذي قاد وحدة نخبوية في الحرب السيبرانية، واطّلع على ملفات شديدة الحساسية، من العمليات الإلكترونية إلى حادثة إسقاط الطائرة الأميركية المسيّرة. ضابط بهذه الخلفية كان يتعاون مع السي أي ايه منذ عام 2008، أي من داخل ذروة المشروع الأمني الإيراني، لا من أطرافه.
لكن البعد الأخطر في هذه القصة لا يتوقف عند تاجيك نفسه، بل عند والده. فـ«الحاج والي» لم يكن أباً عادياً يُفاجأ بانحراف ابنه، بل شخصية أمنية قيادية مرتبطة بدوائر نافذة في الحرس الثوري. هنا يتحول التجسس من حالة فردية إلى سؤال بنيوي: ماذا يعني أن ينشأ جاسوس محتمل داخل بيت يُفترض أنه من بيوت الثقة العليا؟ استخبارياً، هذا هو الكابوس الحقيقي لأي نظام أمني، لأن الخلل لا يأتي عبر الاختراق القسري، بل عبر النَسَب، والاطمئنان والقرابه، وسلسلة الثقة القاطعة بين الأب وعائلته.
وفق الرواية، لم تكن نهاية تاجيك نتيجة محاكمة أو مساءلة قانونية؛ بل تصفية صامتة. موته الغامض عام 2016، من دون تشريح أو إعلان رسمي، بعد وصول والده ومسؤول أمني إلى منزله وتصفية الابن حفاظا على شرف العائله الثوري ، وهذا يكشف منطق الأنظمة الأمنية عندما تواجه خطراً من الداخل: الإغلاق السريع للملف أهم من الحقيقة، والصمت أولى من الفضيحة. في عالم الاستخبارات، هذا السلوك بحد ذاته اعتراف غير مباشر بحساسية ما كان يحمله الرجل من أسرار.
الأخطر أن المعلومات التي يُعتقد أن تاجيك سرّبها لم تكن تقنية فقط، بل بشرية وتنظيمية، طالت بنية “حزب الله” وحركة حماس، ويُرجّح أنها ساهمت في استهداف شخصيات مفصلية مثل عماد مغنية وشخصيات قيادية مهمة في حزب الله ومن داخل ايران نفسها. أمام خطورة هذه المعلومات ، فنحن لا نتحدث عن حرب سيبرانية فقط، بل عن إعادة رسم خريطة الاغتيالات الإقليمية انطلاقاً من داخل أجهزة الاستخبارات الايرانية نفسها وعبر اختراقها مباشرة .
قصة تاجيك تفتح باباً أوسع لفهم ما يجري اليوم في إيران: تصاعد الشك داخل الأجهزة، تعدد مراكز القرار، وانهيار فكرة «المنظومة المتماسكة». عندما يصبح الابن جاسوساً، والأب جزءاً من مؤسسات النظام الحساسة ، تفقد الأجهزة قدرتها على التمييز بين العدو والحليف. هنا لا تعود الحرب السيبرانية مجرد صراع تقني بين دول، بل تتحول إلى حرب ثقة وهوية، تُدار بصمت، وتُحسم غالباً بعيداً عن العلن.
في النهاية، قد تبقى بعض تفاصيل قصة تاجيك غامضة لأسباب تعلمها قيادات ايران الأمنية ، لكن المؤكد أن مثل هذه القصة لا تُختلق من فراغ. هي مرآة لمرحلة تتآكل فيها الجدران من الداخل، وتصبح طهران نفسها ساحة مفتوحة لصراعات استخبارية لا تقل شراسة عن أي حرب عسكرية. وفي هذا النوع من الحروب، لا يكون السؤال: من اخترق من؟ بل: من يثق بمن بعد الأن.

