"الشتاء النووي" يقترب.. تصعيد روسي يستهدف منظومة الطاقة الأوكرانية
تواجه أوكرانيا أحد أكثر فصول الحرب خطورة منذ اندلاعها في فبراير 2022، إذ تحولت الضربات الروسية الأخيرة إلى حملة مركزة تستهدف بنية الطاقة الأوكرانية؛ ما يهدد استقرار منظومة الكهرباء ويضع المفاعلات النووية في البلاد أمام خطر متزايد من الانهيار غير المقصود.
وأوضحت صحيفة "يوراسيان تايمز" أنه في ليلة 22 أكتوبر، شنت موسكو هجوماً واسع النطاق استهدف محطات حرارية وكهرومائية رئيسة في كييف، وبولتافا، وزابوريزهيا، وأوديسا، وتشيركاسي، ودنيبروبيتروفسك، ضمن استراتيجية واضحة لإغراق البلاد في الظلام عشية الشتاء.
في المراحل الأولى من الحرب، ركزت روسيا على ضربات متقطعة بالباليستيات والطائرات المسيّرة الانتحارية لإرباك الشبكة الكهربائية الأوكرانية؛ لكن هذه الهجمات، رغم ضخامتها، لم تحقق سوى تأثير مؤقت بفضل سرعة الدعم الأوروبي في إصلاح الأضرار وتزويد كييف بمعدات بديلة.
لكن اليوم، تغيّر المشهد جذرياً؛ فمع اقتراب شتاء 2025 2026، انتقلت موسكو إلى استراتيجية استنزافية تستخدم فيها أعدادا ضخمة من الطائرات المسيّرة والصواريخ الدقيقة في موجات طويلة تستمر لساعات. الهدف لم يعد تجاوز الدفاعات الجوية، بل إنهاكها تدريجياً.
وخلال الفترة من مارس إلى أغسطس 2025، شنت روسيا نحو 2900 هجوم على أهداف طاقوية، قبل أن تتصاعد وتيرة الضربات في أكتوبر لتصبح شبه يومية.
وبفعل زيادة الإنتاج المحلي وتحديث تقنيات الطائرات المسيّرة من طراز "جيران"، باتت موسكو قادرة على توجيه هجماتها من قواعد متقدمة قرب خطوط المواجهة، ما قلّص وقت إنذار أوكرانيا إلى دقائق معدودة.
الطاقة كجبهة حرب استراتيجية
تكشف الحملة الروسية الراهنة أن موسكو تخوض حرب طاقة بامتياز، تسعى من خلالها إلى إخضاع البنية التحتية الأوكرانية عبر الضغط الكهربائي لا عبر التفوق العسكري المباشر.
فبعدما تراجعت قدرة أوكرانيا على توليد الكهرباء التقليدية (من الفحم والغاز والمياه) إلى النصف، أصبحت الطاقة النووية تمثل أكثر من 70% من إجمالي الإنتاج الكهربائي، ارتفاعاً من 55% قبل الحرب.
إلا أن هذا التحول يجعل كييف أكثر هشاشة من أي وقت مضى. فثلاث فقط من محطات الطاقة النووية الأربع لا تزال عاملة، بينما تخضع محطة زاباروجيا للطاقة النووية، الأكبر في أوروبا، للسيطرة الروسية ومفصولة عن الشبكة.
ويضع هذا الوضع عبئاً هائلاً على مفاعلات ريفني وخميلنيتسكي وجنوبي أوكرانيا، التي تضطر للعمل بأقصى طاقتها لتلبية الطلب المتزايد.
منذ فبراير 2025، ركزت روسيا أيضاً على تدمير أصول إنتاج وتخزين الغاز الطبيعي، بهدف منع أوكرانيا من تلبية ذروة الطلب خلال فصل الشتاء.
وتشير التقارير إلى أن الإنتاج اليومي انخفض بأكثر من 40% في الربع الأول من العام، بينما دُمّر نحو نصف البنية التحتية الغازية بحلول أكتوبر.
هذا التآكل المتسارع في قدرات التوليد والتخزين لا يهدد فقط التدفئة المنزلية، بل يضع الشبكة الكهربائية في حالة اختلال دائم؛ فالمفاعلات النووية مصممة لتوليد أحمال ثابتة، ولا يمكنها الاستجابة بسرعة لتقلبات الطلب أو لانقطاعات الشبكة المفاجئة؛ ما يرفع خطر الإغلاق القسري أو حتى وقوع حوادث تشغيلية.
الخط الأحمر النووي
حتى الآن، امتنعت روسيا عن مهاجمة المفاعلات النووية بشكل مباشر، إدراكاً للمخاطر الكارثية التي قد تنجم عن أي تسرب إشعاعي عابر للحدود.
لكن محللين يرون أن موسكو تستخدم سلاح الطاقة بذكاء سياسي: فهي لا تستهدف المفاعلات ذاتها، بل تضرب البنية الداعمة لها؛ ما يؤدي إلى زعزعة استقرار الشبكة وإجبار كييف على تقليص تشغيلها طوعاً.
وبحسب المحللين، تحقق هذه المقاربة هدفين في آنٍ واحد: إنهاك الاقتصاد الأوكراني عبر حرمانه من الكهرباء الرخيصة، ودفع كييف إلى الاعتماد أكثر على المساعدات الغربية في مجال الطاقة الطارئة، دون تجاوز الخط النووي المحظور دولياً.
ومع دخول فصل البرد القارس، تبدو أوكرانيا مقبلة على أزمة طاقة مزدوجة: نقص حاد في الغاز، واعتماد مفرط على مفاعلات قديمة تعمل عند حدودها القصوى؛ وأي خلل في الشبكة قد يؤدي إلى تعطيل أنظمة التبريد أو التحكم في تلك المفاعلات، وهو سيناريو تخشاه أوروبا بأسرها؛ لما يحمله من مخاطر إشعاعية وتداعيات سياسية عميقة.
في المقابل، يحاول الغرب دعم كييف بمولدات طاقة متنقلة ومعدات إصلاح سريعة، لكن الكفاءة المحدودة لهذه الحلول تجعلها غير كافية لتعويض الخسائر البنيوية المتواصلة.
ما يجري في أوكرانيا لم يعد مجرد صراع عسكري، بل حرب ظل على أمن الطاقة الأوروبي؛ فبينما تستخدم روسيا ضربات دقيقة لاستنزاف قدرة كييف على الصمود الكهربائي، يجد الغرب نفسه أمام معضلة استراتيجية: كيف يحافظ على استقرار شبكة طاقة أوكرانيا دون الانزلاق إلى مواجهة نووية محتملة؟
إن استمرار الهجمات الروسية بوتيرتها الحالية قد يجبر كييف على إغلاق مفاعلاتها تدريجياً حفاظاً على السلامة النووية؛ ما يعني دخول البلاد في عتمة شتوية غير مسبوقة، وربما بداية فصل جديد في حرب الاستنزاف الطاقوي بين موسكو والغرب.

