غزة مجرد بداية... والضربة الكبرى في لبنان
قال الباحث في العلاقات الدولية والشأن الأمريكي الدكتور كمال الزغول إن ما يُجري من مناورات دبلوماسية وسياسية في الكواليس الأميركية ــ الإسرائيلية يُقرأ على أنه مشروعٌ استراتيجي متكامل، يسعى لأن يكون بوابةً لهيكلة إقليمية أوسع تشمل لبنان وسوريا ومسارات التطبيع الإقليمي، بل وتمهيدًا لإعادة ضبط العلاقة مع إيران ضمن أفق ثنائي المسار مرتبط بالتفاوض أو العقوبات.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن دوافع إدارة واشنطن بقيادة دونالد ترامب تتجاوز الرغبة في "إنجاز سياسي" فحسب، فتسريع الاتفاق في غزة يخدم عدة أغراض متقاطعة، أولها منح هامشٍ سياسي واسع لإسرائيل وقيادتها الداخلية، وثانيها تمكين الولايات المتحدة من إعادة تشكيل أولوياتها الإقليمية على قاعدةٍ أمنية واستراتيجية جديدة، وثالثها توفير غطاءٍ سياسي لنتنياهو داخليًا من خلال شبكة أمان سياسية مضمونة الحضور والمفاعيل.
ورأى الزغول أن الآلية المتبعة تحمل طابعًا مرحليًا قائمًا على تسلسلٍ منطقي عملي، تبدأ بالملفات الأسهل نسبيًا والمتمثل في قضية الرعايا والأسرى والوقف الجزئي للعمليات، ثم تنتقل إلى ملفات أعقد تتعلق بالجيوب المسلحة والقدرات النظامية الفاعلة على الأرض.
ونوّه إلى أن إدارة ترامب هدفت إلى نزع سلاح حركة حماس "بشكل تدريجي"، وهو ما يمنح، حسب تقديره، نتنياهو الوقت الكافي لاحتواء الملف داخليًا قبل الانتخابات، وربما لدرء مخاطر الملاحقة القضائية المحلية عبر إظهاره كمنجز أمني وسياسي.
وشدّد الزغول على أن السقف التالي للعملية لن يقتصر على غزة، فمن وجهة نظره، تتحول الأنظار سريعًا إلى لبنان، حيث يمثل سلاح حزب الله "المحورَ المركزي" في قدرة طهران على تعديل المعادلة الإقليمية، مستطردًا أن الأمريكيين والإسرائيليين لا يرغبون في بقاء بنيةٍ مسلحة غير منظومة تحتفظ بقدراتٍ ثقيلة قادرة على تغيير مسار أي مواجهة مستقبلية؛ غير أنه اعتبر في ذات الوقت أن تفكيك بنية حزب الله أو نزع سلاحه يواجه قيودًا واقعية بالغة العمق لا تشبه ما يُتوقع في غزة، نظرًا لانتشار الحزب الجغرافي، وامتلاكه منظومات صاروخية وثقيلة، وارتباطه الشبكي بالمجتمع اللبناني السياسي والاجتماعي.
على صعيد محور إيران، نوّه إلى أن إدارة ترامب تحاول أن تجري التسوية الميدانية أولًا من خلال تهدئة متعددة الجبهات، فيما يظل الملف النووي والسياسـي مع طهران مرهونًا بمساراتٍ تفاوضية أو ضغوطٍ عقابية، مردفًا أن الولايات المتحدة قد تنهج نهجًا متوازنًا ــ سياسيًا وأمنيًا ــ يجمع بين عروض التطبيع لبعض الدول العربية من جهة، وضمانات ردعية في وجه إيران من جهةٍ أخرى، بما يضع طهران أمام خيار قبول تفاهمات محددة أو مواجهة دورة عقوبات أشدّ.
ولفت الزغول إلى أن واشنطن تعمل على خلق شروطٍ لسحب قواتها من ساحاتٍ مثل العراق وسوريا عبر تشجيع دمج الفصائل المحلية في هياكل الدولة الرسمية، لتفادي فراغٍ أمني يُستغل من قوى إقليمية أو ميليشيات غير خاضعة للمساءلة، مشيرًا إلى أن هذه الخطوة ــ لو نجحت ــ تسمح للولايات المتحدة بخفض حضورها المباشر مع احتفاظها بتأثيرٍ سياسي واستراتيجي عبر آليات تدريب، دعم ومراقبة.
ونبه إلى قائمة من العقبات الحقيقية التي قد تعترض هذا المسار، وهي الصعوبات الفنية واللوجستية في نزع السلاح عن مجموعاتٍ تمتدُّ قواعدها وعلاقاتها، إلى جانب هشاشة الآليات الضامنة لالتزامات الأطراف، والتي من دونها يسقط أي اتفاق عمليًا، مرورًا بمخاطر تفكك الصفوف العربية إذا فُرضت ترتيبات تعبّر عن حلولٍ أحادية الجانب أو تُخلّ بشرعية قضايا مركزية مثل حق العودة والقدس، ووصولًا إلى تأثيرات المعارضة الداخلية الإسرائيلية، التي قد تتقاطع أو تتصادم مع أوراقٍ مفاوضة تُفقد هذه الأطراف جواز مناوراته.
وأشار الزغول إلى أن ما يجري ليس صفقةً ظرفية لوقف النار بقدر ما تمثل محاولة لإعادة بلورة شاملة لمعادلات القوة والشرعية في المشرق، ومن ثم، فإن نجاح أي مسارٍ يتطلب عناصر ثلاثة حاسمة هي: ضمانات دولية مؤسسية قابلة للتحقق، ترتيبات زمنية مرحلية واضحة ومقننة، وبرامج إعادة إعمار مترافقة مع سياسات سياسية شاملة تعيد إدماج المؤسسات والفاعلين المحليين، وإلا فستظل المنطقة أمام مخاطر "تصعيدٍ تدريجي" أو "تجميدٍ هشّ" يعيد إنتاج الأزمات بوجوه جديدة.

