رسالة من الشرق الأوسط: غزة ... عشرون عاما بين الأمل والألم تحت الحصار والحروب
بقلم: عماد الدريملي
قبل عشرين عاما، وقفت بين حشود الفلسطينيين الذين ملأوا شوارع غزة في 12 سبتمبر من العام 2005، يلوحون بالأعلام ويغنون احتفاء بانسحاب آخر جندي إسرائيلي من قطاع غزة.
كانت أصوات الأهازيج تختلط بزغاريد النساء، ودموع الفرح تغطي وجوه مسنين أنهكهم الانتظار، بينما الأطفال يركضون بحرية للمرة الأولى فوق أرض كانت قبل ساعات محاطة بالأسلاك الشائكة.
كان ذلك اليوم بالنسبة لكثيرين لحظة ميلاد وعهدا جديدا، وبداية لتحقيق حلم الدولة الفلسطينية، لكنه بالنسبة لصحفي شاب بدا أنه أيضا اختبار لما إذا كان هذا المكان سيحيا أخيرا خارج الاحتلال المباشر.
-- بين الفرح المؤقت والخيبة الطويلة
في ذلك الصباح من سبتمبر 2005، وثقت بالكاميرا ودفتر ملاحظاتي مشاهد انسحاب الجيش الإسرائيلي من المستوطنات المحصنة التي أقامها في قلب غزة.
ومع الانسحاب رأيت نساء يزغردن، إحداهن، مسنة ترتدي الثوب الفلسطيني التقليدي، أمسكت بيدي والدموع تملأ عينيها، وهي تقول "تنفسنا أخيرا… هذا يوم عيد … انتهى الاحتلال احكي للشباب يحافظوا على الأرض".
كانت كلماتها أشبه بوصية، وربما بنبوءة لما سيكون عليه الأمر إذ لم يطل الفرح كثيرا.
بعد أشهر فقط، بدأت معالم المرحلة الجديدة بالظهور، حيث بدا أن القطاع يقف على مفترق طرق. فالانتخابات التشريعية عام 2006 وما تبعها من انقسام دموي عام 2007 بين حركتي التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) والمقاومة الإسلامية (حماس) لم يكن مجرد حدث سياسي عابر، بل حقبة فاصلة غيرت وجه غزة.
-- الحصار يغير تفاصيل الحياة
سرعان ما وجدنا أنفسنا تحت حصار مشدد أغلقت فيه المعابر واشتدت القيود على السفر والعلاج وحتى الحصول على أبسط مقومات الحياة.
كان من الصعب على صحفي يعيش بين الناس أن يظل مجرد مراقب. كنت أرافق مرضى لم يتمكنوا من مغادرة غزة لتلقي العلاج، وأشهد أمهات ينتظرن على الحواجز عبثًا.
في تلك السنوات بدأنا نفهم أن الحصار ليس مجرد إجراء سياسي، بل حكم بالسجن الجماعي على أكثر من مليوني إنسان.
فالحصار على غزة شمل كل تفاصيل حياتنا اليومية، لا نرى الكهرباء والماء إلا ساعة أو ساعتين يوميًا، طوابير طويلة لعبور معبر رفح، اقتصاد يتداعى مع شح المواد، وبطالة تجاوزت نصف الشباب.
ومع ذلك، ظل الناس يبحثون عن الحياة: حفلات زفاف في أزقة ضيقة، مقاهٍ مزدحمة، حركة بناء متواضعة رغم احتمال القصف، وأطفال يركلون ويلعبون الكرة وسط الركام.
كنت أشاهدهم وأتساءل: كيف يمكن لضحكة طفل أن تقهر دخان الحرب؟ وكيف يمكن لزهرة صغيرة على شرفة مهدمة أن تعلن انتصارها على الدبابات؟.
ذلك التناقض كان جزءا من هوية قطاع غزة: مدن تعلن الحياة رغم الموت، وفي الوقت نفسه، تزداد الضغوط السياسية والاجتماعية على السكان يوما بعد يوم، دون أي أفق لحل الصراع أو تخفيف المعاناة.
-- حروب متتالية
بين عامي 2008 و2021 اندلعت مواجهات عسكرية دموية عنيفة بين الفصائل الفلسطينية المسلحة وإسرائيل، ترك كل منها ترك ندوبًا وجروحا أعمق من سابقتها.
وفي كل واحدة منها كنت في الميدان، أتنقل بين الأحياء المستهدفة وأوثق بيوتا مدمرة ووجوها مذهولة وأطفالا يبحثون بين الركام عن ألعابهم المفقودة.
أتذكر أول مرة رافقت طواقم الإسعاف تحت القصف، كيف كان صراخ الأطفال يعلو على أصوات الانفجارات. في 2014 عشت أياما شعرت خلالها أن الموت يلاحقني في كل لحظة. غارات جوية لا تهدأ، شوارع تحولت إلى أنقاض، وآلاف الأسر المشرّدة تبحث عن مأوى في مدارس مكتظة.
كنت أعود إلى بيتي منهكا، لكنني بالكاد أجد فرصة للراحة، إذ كنت أستيقظ على أسئلة أطفالي: لماذا يحدث كل هذا؟ هل سننجو؟ لم أكن أملك إجابات مقنعة سوى أن أطلب منهم التمسك بالأمل.
في إحدى المواجهات قصف الطيران الإسرائيلي منزل جيراني الذي تهدم فوق رؤوس ساكنيه. كنت أول من وصل بعد القصف، الكاميرا بيدي والصدمة تشل خطواتي. لم أكن مجرد صحفي ينقل صورة أو حدث، بل جار يعرف أسماء الضحايا واحدا واحدا.
في كل مرة كنت أعود إلى بيتي متأخرا، يسألني ابني الصغير "بابا، هل يمكن أن يقصفوننا الليلة؟"؛ لم أجد إجابة سوى أن أحتضنه بقوة، كمن يحاول مواجهة قنبلة بصدره.
-- أكتوبر.. بداية حرب لا تنتهي
كل شيء تغير صباح السابع من أكتوبر 2023. الهجوم الذي شنته حماس على جنوب إسرائيل تبعه رد عسكري غير مسبوق، إذ لم يتوقف القصف يوما واحدا. البيوت دُمّرت على ساكنيها، المستشفيات خرجت عن الخدمة، والنزوح أصبح القاعدة لا الاستثناء.
لم ندرك أن ما ينتظرنا لم يكن سوى بداية لكابوس طويل. في كل مرة توهمنا أن القصف سيتوقف قريبا، كان يزداد عنفا واتساعا. لم يكن هناك مكان آمن.
خلال سبعة شهور في الحرب في غزة، عشت الصحافة والمأساة معًا. كنت أكتب وأبث الأخبار طوال الوقت، وأحاول في الليل أن أكون أبًا يحمي عائلته من الرعب والجوع. رأيت أصدقاء وزملاء يسقطون أمامي؛ بعضهم قضى تحت القصف، وآخرون أصيبوا وهم يوثقون الحقيقة بعدساتهم.
ما زلت أذكر جيدا تلك الليالي الطويلة التي قضيناها بلا كهرباء ولا ماء، نسمع صوت الطائرات الذي لا ينقطع، ونحصي الانفجارات في الأحياء القريبة. كنت أحاول أن أبدو قويًا أمام أطفالي، لكنني كنت أعلم في داخلي أننا جميعًا نعيش على حافة موت محتمل.
نزحت مع عائلتي ثلاث مرات، متنقلا من مدينة إلى أخرى، ومن منزل إلى مدرسة، ثم إلى خيمة تتطاير مع الرياح وسط قطاع غزة. وفي كل مرة كنا نحمل أمتعتنا المتواضعة، ووجعا متجددا باستمرار.
في الخيام التي انتشرت كمعسكرات ومخيمات بديلة في كل مكان، عشنا ليالي طويلة من البرد والجوع. رأيت أطفالا يرتجفون تحت أغطية بالية، وأطباء يعتذرون للأمهات لأن الدواء مفقود.
كنت أنظر في عيون المرضى فأرى فيها سؤالا صامتا "هل يعرف العالم أننا نموت هنا ببطء؟".
-- بين الصحفي والإنسان
لأول مرة في حياتي المهنية شعرت أن الخط الفاصل بين الصحفي والإنسان قد انهار تمامًا. لم أعد فقط من ينقل معاناة الآخرين، بل أصبحت جزءا منها. أصبحت أنا النازح، المهدد، المشرد مثل الذين أكتب عنهم. أدواتنا صارت تشبه أرغفة الخبز: قليلة، محترقة وملوثة بالرمل، ولكنها ضرورية للبقاء.
منذ نزوحنا الأول، أصبح الليل كابوسا دائما مع أزيز الطائرات من كل الأنواع، ننام وأسرتي على الأرض، كلما سقط صاروخ قريب، يقفز الصغار من نومهم، يلتفون حولي وكأن حضني قادر على حمايتهم من السماء المشتعلة.
أصعب اللحظات كانت تلك الليلة التي سقط فيها والدي مريض القلب والسكري المزمن. حملته مع أشقائي وأولادي وركضت بين الشوارع المدمرة إلى أقرب مستشفى ميداني. هناك، اعتذر الأطباء بعيون كسيرة "لا دواء… لا محاليل… ليس لدينا سوى الماء وبعض المسكنات".
عدت به إلى مكان نزوحي، وجلست طوال الليل أراقب أنفاسه بخوف من أن تتوقف فجأة.
ومن أكثر اللحظات قسوة كانت حين سمعت ابني الأكبر يهمس لأشقائه "لو مت، قولوا لأبي إني أحبه كثيرا". كلماته اخترقتني كسكين. بكيت بصمت تلك الليلة، غير قادر على إخفاء خوفي الحقيقي. فلأول مرة أدرك أطفالي أنني لست قادرا على حمايتهم.
-- حياة جديدة بظل الذكريات
لم أكن أتخيل أنني سأغادر غزة يوما مجبرا ومضطرًا. لكن بعد اشتداد القصف المتواصل والنزوح المتكرر، أدركت أن بقائي لم يعد خيارا، خاصة مع تزايد المخاطر على عائلتي.
لم يكن الرحيل سهلاً. لحظة الخروج عبر معبر رفح إلى القاهرة كانت أشبه بانتزاع جزء من الروح، حيث تركت خلفي أشقائي وأصدقاء فقدتهم في الحرب، وآخرين لم أستطع حتى توديعهم، وبيتي وأرضي المدمرة. كنت أحمل حقيبة صغيرة فيها بعض الأوراق والمستندات، وكأنني أحمل ما تبقى من حياتي في حقيبة يد.
في القاهرة، الحياة تبدو طبيعية وهادئة، وربما أعيش ما يسميه البعض "راحة مؤقتة"، لكنها ليست راحة حقيقية. فكل خبر عاجل من غزة يوقظني حتى بعد منتصف الليل، أفتح هاتفي لأطمئن على الأهل والأصدقاء، وأشعر بثقل الغياب والذنب في آن واحد؛ فقد نجوت، لكن كثيرين لم يتمكنوا من النجاة.
اليوم، وأنا أكتب من بعيد، أنظر إلى السنوات العشرين الماضية بعيون مختلفة، فغزة التي في القلب والوجدان ليست مجرد مكان نعيش فيه، بل عنوانا لحلم الفلسطينيين بالحرية والاستقلال، يجمع بين الألم والصمود، وبين الخوف والأمل.
ومع ذلك، يبقى أعظم إرث نتركه لأبنائنا ليس البيوت ولا الأرض فقط، بل القدرة على الحلم، حتى لو بدا مستحيلا.

