أنس الشريف... حبر أحمر على هوامش بيانات الإدانة

{title}
أخبار الأردن -

في مشهدٍ يُعيد إلى الواجهة سؤالًا حول العدالة المؤجَّلة في زمن الحروب المجرّدة من الضمير، أُسدل الستار على حياة الصحفي أنس الشريف إثر استهدافٍ مباشر نفّذته آلة القتل الإسرائيلية قرب مجمّع الشفاء الطبي في قلب مدينة غزة، في وقتٍ كان أنس فيه أكثر من مجرّد ناقل خبر، إذ إنه كان عينًا متقدةً، ترصد تفاصيل المأساة في أكثر لحظاتها قسوة، وتُحيل الصورة إلى شهادةٍ حية تتحدى محاولات الطمس والتغييب.

لقد كان حضوره مزيجًا من الجرأة الأخلاقية والالتزام الإنساني، وهو ما جعله - كما كثيرين من زملائه - هدفًا في سياق منظومةٍ متكرّرة من الإقصاء الدموي لصوت الحقيقة.

إن استهداف الشريف لا يمكن قراءته في معزل عن سياقٍ أوسع يتسم بمنهجية واضحة في تقويض الدور الإعلامي داخل مناطق النزاع، ذلك أن الصحفي الفلسطيني بات على نحوٍ خاص عرضةً لسياسة اغتيالٍ مزدوجة تظهر من خلال اغتيال الجسد واغتيال السردية، فالذريعة التي أطلقها جيش الاحتلال ليست سوى امتداد لخطابٍ مُمَنهج يسعى إلى شرعنة القتل عبر إعادة تعريف هوية الضحية، وتحويلها من مدني محمي بموجب القانون الدولي الإنساني إلى هدف مشروع في نظر القوة العسكرية.

هذا النمط من التبرير يُسقط قيمة المواثيق الدولية، ويكشف عن ميلٍ متصاعد لتطويع اللغة القانونية بما يخدم إستراتيجيات الحرب النفسية والسياسية في آنٍ واحد.

وإذا ما وضعنا هذه الجريمة في الإطار القانوني، فإنها تمثل خرقًا فاضحًا لأحكام البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977، الذي نصّ صراحةً على حماية الصحفيين أثناء النزاعات المسلحة، باعتبارهم مدنيين ما لم يشاركوا مباشرة في الأعمال العدائية، وبذلك، فإن قصف موقع معلوم لطاقم إعلامي، متّشح بوسم "PRESS"  الظاهر بجلاء، يُعدّ وفق المعايير الدولية انتهاكًا مركبًا يجمع بين جريمة الحرب وجريمة تقويض حرية الإعلام، ويستدعي - من حيث المبدأ - تحريك آليات المساءلة أمام المحكمة الجنائية الدولية أو أي هيئة قضائية ذات ولاية مختصة.

لكن ما يجعل استشهاد أنس الشريف واقعةً فارقة، هو أن شهادته الأخيرة - الموثّقة بالصوت والصورة - جاءت كوصية مفتوحة إلى العالم: ألا يُترك الفلسطينيون وحدهم في مواجهة موتٍ يتربص بهم في كل زاوية، وألا تتحول غزة إلى مساحة منسية خلف جدران الحصار، وفي تلك الكلمات، التي سبقت القصف بوقتٍ قصير، يتجلى البُعد الإنساني العميق لعمله الصحفي؛ حيث كان يعي تمامًا أن الكاميرا في غزة درع أخلاقي في مواجهة السردية المضللة للاحتلال.

إن اغتيال أنس الشريف، إذن، لا يُختزل في كونه حادثة فردية، بقدر ما يُشكّل حلقةً في سلسلة متواصلة من استهداف الصحفيين، والتي حصدت منذ السابع من أكتوبر عشرات الأرواح من أهل المهنة، لتصبح غزة في نظر المراقبين واحدة من أكثر البيئات فتكًا بالعمل الإعلامي في العالم المعاصر، كما أن هذا النمط المنهجي من القتل يثير سؤالًا مهمًا حول جدوى القوانين الدولية إذا ما ظلّت رهينة انتقائية التطبيق، ويستحضر - في المقابل - الحاجة الماسّة إلى بناء منظومة حماية دولية مُلزمة، لا تكتفي بالإدانة اللفظية، وتتجاوزها إلى فرض العقوبات الرادعة على منتهكي حقوق الصحفيين.

في السياق العربي، برز الموقف الأردني كأحد الأصوات الرسمية السريعة في إدانة هذه الجريمة؛ إذ أصدرت وزارة الخارجية وشؤون المغتربين بيانًا شديد اللهجة، اعتبرت فيه استهداف الشريف خرقًا صريحًا للقانون الدولي الإنساني، وطالبت المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته في حماية الصحفيين ووقف الانتهاكات الإسرائيلية الممنهجة، وعلى المستوى النقابي، أصدرت نقابة الصحفيين الأردنيين بيانًا نددت فيه بالاغتيال، مؤكدة أن استهداف العاملين في الحقل الإعلامي جريمة ممنهجة تهدف إلى إسكات الشهود على جرائم الاحتلال، وداعيةً إلى تحرك عربي ودولي فاعل لضمان محاسبة الجناة، وحماية من تبقى من الصحفيين في ميادين النزاع.

ولقد شكّل هذان الموقفان — الرسمي والنقابي — تعبيرًا عن امتداد الموقف الأردني الثابت في الدفاع عن الحق الفلسطيني، وتحديدًا في بُعده المتعلق بحماية الحريات الإعلامية.

لكن اللافت أنّ صدى استشهاد أنس الشريف لم يتوقف عند حدود المؤسسات الرسمية والنقابية؛ فقد انعكس بقوة على الرأي العام العربي والفلسطيني، خاصة بعد أن جرى تداول حديثه الأخير حول المساعدات الإنسانية الموجهة إلى غزة، وانتقد علنًا آليات توزيعها وواقع عدم وصولها إلى مستحقيها في مناطق الحصار والدمار، وهذه الكلمات، يحوّلها من تصريح إعلامي إلى شهادة دم، جعلت صمته المستحيل حاضرًا حتى بعد رحيله.

ذكرى أنس الشريف ستبقى في ذاكرة الوعي الجمعي رمزًا لإصرار الحقيقة على تحررها، حتى وإن كان ثمنها الدم، وإن تحويل هذه الجريمة إلى محطة ضغط سياسي وقانوني هو واجب أخلاقي يتجاوز الأفراد إلى المؤسسات والدول، حتى لا يبقى دم الصحفيين مجرد حبر أحمر على هوامش بيانات الإدانة.

تابعونا على جوجل نيوز
البحر المتوسط لإدارة المواقع الإخبارية الالكترونية