معركة الأردن المقبلة ليست مع جيوش.. وهكذا ننجو
د. نبيل العتوم
في ظل التحولات الإقليمية المتسارعة، واشتداد حدة التهديدات غير التقليدية، تجد الأجهزة الأمنية الأردنية نفسها أمام لحظة فارقة تتطلب إعادة تقييم شاملة لعقيدتها الأمنية وأدوات عملها بشكل مختلف تماما. فالعالم من حولنا يتغير، وتوازنات القوة تتحول، بينما تعيد أجهزة استخبارية كبرى تموضعها داخل العمق العربي والإسلامي، وعلى رأسها جهاز الموساد الإسرائيلي، الذي بات يُنظر إليه كأحد أكثر الأجهزة الاستخبارية نشاطًا وجرأة على مستوى الإقليم.
على مدى السنوات الخمس الماضية، قدّم الموساد نموذجًا متطورًا ومذهلا في العمل الاستخباري الهجومي العابر للحدود، قائمًا على الاختراق العميق والاغتيالات النوعية واستخدام التكنولوجيا الحديثة كسلاح صامت. في لبنان، اتُّهم بتصفية أبرز القادة العسكريين في حزب الله، بدءًا من عماد مغنية عام 2008، وصولًا إلى محاولات معقدة ادت الى قتل حسن نصر الله وهاشم صفي الدين واكثر من 400 قيادية عسكرية وامنية وسياسية من الصف الاول والثاني والثالث للحزب في اوقات قياسية، وباساليب واستراتيجيات نوعية وغير متوقعة. وفي إيران، نفّذ عمليات دقيقة طالت ما لا يقل عن 22 شخصية رفيعة في الحرس الثوري وفيلق القدس، بينهم مسؤولون عن البرنامج النووي والصاروخي.
ولعل أخطر ما كشفت عنه هذه العمليات هو التحول نحو الاستخبارات الذكية، والاغتيال الصامت باستخدام تقنيات متقدمة ، واشبه بافلام جيمس بوند وميشن ايمبوسيبل . ففي عملية اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده، استخدم الموساد مدفعًا رشاشًا مزودًا بتقنية الذكاء الاصطناعي تم تركيبه على آلية مموهة والتحكم به عبر الأقمار الصناعية، ما سمح بتصفية الهدف دون وجود أي عنصر بشري على الأرض
كما استُخدمت في عمليات أخرى طائرات مسيّرة شبحية صغيرة الحجم، و"روبوتات أرضية" مزوّدة بكاميرات واستشعار حراري، دخلت عبر شبكات تهريب معقدة، ما يشير إلى اختراق تكنولوجي للبيئة الأمنية الإيرانية من الداخل..هذا عدا عن الضربة النوعية التي جرت كمقدمة لعملية 13 حزيران التي استهدفت الصف الاول من القادة العسكريين والأمنيين الايرانيين ، ما مهد الارضية للشروع في الضربات العسكرية الأقوى التي تعرضت لها ايران من جانب إسرائيل.
أما في لبنان، فقد برزت "عملية البيجر" كنموذج لعملية دمج فيها الرصد البشري بالذكاء الاصطناعي، حيث استُخدمت طائرات تجسّس صغيرة الحجم وأجهزة تنصت دقيقة مزروعة في محيط الهدف، مع إدارة مركزية من خارج الحدود، ما أدى إلى تنفيذ اغتيال نظيف ومعقّد، دون اختراق علني للحدود اللبنانية.
غير أن ما يقلق أكثر هو ما كشفته تقارير استخبارية موثوقة، تم تسريبها الى الاعلام، عن زرع الموساد لأجهزة تنصّت واستشعار دقيقة داخل الهواتف النقالة، والأجهزة الكهربائية المنزلية، والألواح الشمسية، وأنظمة التحكم الذكي، التي تُصدّر عبر شركات تجارية إلى إيران ولبنان، مع وجود فرضية لاحتمالية تصدير نماذج على غرارها إلى دول عربية أخرى من بينها الأردن. بعض هذه الأجهزة تحتوي على شرائح غير ظاهرة مبرمجة للعمل عن بُعد أو لتفعيل أنظمة تتبع عندما تتصل بشبكات الإنترنت أو الطاقة. هذا التهديد الصامت والخبيث يُظهر تغير طبيعة التجسس من الأسلوب التقليدي إلى الاندساس عبر التكنولوجيا، حيث تصبح الثغرة الأمنية في بيت المواطن، وليس فقط في مؤسسات الدولة، وهو ما يستوجب يقظة جديدة، وتحديثًا شاملاً للعقيدة الأمنية الأردنية.
المطلوب اليوم ليس فقط الحماية من الخارج، بل بناء نظام أمني وطني وقائي متعدد الجوانب والمسارات والاستراتيجيات، يعيد صياغة العقيدة الأمنية الأردنية لتكون وقائية واستباقية، تُدير التهديد قبل أن يدخل حدود الدولة، وتُتابعه داخل البيئات الهشة إقليميًا وحدوديًا، ويعزز في الوقت ذاته القدرات السيبرانية الهجومية والدفاعية، من خلال فرق إلكترونية متخصصة قادرة على رصد الشيفرات الخبيثة، وتعطيل أي أجهزة تجسس داخل السوق الأردني أو المؤسسات العامة، مع تحديث أدوات العمل الاستخباري البشري، وبناء شبكات مراقبة متقدمة في نقاط التماس الجغرافي والسياسي، وإنشاء قاعدة بيانات ديناميكية لتحليل الأنماط المالية والحركية والاتصالية المرتبطة بأنشطة استخبارية أو تهريب تقني موجه.
لكنّ هذه المواجهة لا يمكن أن تُدار أمنيا فقط. فالتحدي الحقيقي يكمن في بناء وعي مجتمعي شامل، ورفع منسوب الثقافة الأمنية لدى المواطنين. وهنا تبرز الحاجة الحيوية إلى إدخال الثقافة الأمنية إلى المناهج المدرسية والجامعية، لا سيما في كليات العلوم العسكرية والهندسة وتكنولوجيا المعلومات، ومواد الثقافة الوطنية، لتعزيز مفاهيم مثل الأمن السيبراني، وحماية الخصوصية، والتعامل مع الأجهزة الذكية بوعي علمي ومعرفي، مع ضرورة تعزيز الشراكة الوطنية بين المواطن والجهاز الأمني عبر برامج توعية مجتمعية ومبادرات تُشجع على التبليغ وتمنح المواطنين أدوات فهم التهديدات الحديثة.
كما ينبغي أن تتجه الدولة الأردنية نحو تعزيز التعاون الاستخباري العربي المشترك في مواجهة التسلل التكنولوجي، خاصة أن ساحة الموساد لم تعد محصورة في بلد دون آخر، بل تمتد عبر شبكة من "الوكلاء الصامتين السرييين" والأجهزة المزوّدة بشيفرات غير مرئية، تُفكك الخصوصية الوطنية من الداخل دون أن تطلق رصاصة واحدة.
في المحصلة، فإن معركة الأردن اليوم ليست مع جيوش، بل مع أجهزة في الظل، وشبكات ناعمة تتقن التخفي وتنتظر الثغرة لتدخل. ولن ينجو الأردن من هذا التحدي إلا إذا امتلك عقيدة أمنية حديثة ومتطورة، وقدرات تقنية محدثة، وإرادة سياسية لتجديد مفهوم الأمن الوطني بما يتجاوز الشرطة والجيش والاستخبارات إلى الدولة الذكية ذات المناعة المجتمعية.

