فاجعة الميثانول بالأردن.. صمت رسمي يُفاقم الكارثة والمساءلة الأخلاقية تطرق الأبواب
لم يعد الأمر مجرد خبر عابر عن حالات تسمم بالكحول، بل تحوّلت فاجعة "الميثانول" في الأردن إلى أزمة وطنية تهزّ الضمير العام، بعدما حصدت أرواح 9 أشخاص وخلّفت 17 مصابًا، لا يزال بعضهم يصارع الموت في غرف العناية الحثيثة.
وفي ظل غياب رواية رسمية متماسكة تشرح ما جرى للرأي العام، تتزايد تساؤلات المواطنين: من سمح بوصول هذه المادة القاتلة إلى الأسواق؟ ولماذا لم تتحرك الجهات الرقابية قبل أن تتحوّل زجاجة كحول إلى أداة قتل؟
وعندما تكون صحة الإنسان هي موضع التهديد، يصبح الكشف عن الحقائق مسؤولية أخلاقية لا تحتمل التأجيل أو التجميل، وفي مثل هذه الحالات، تُعلن الدول والمنظمات والشركات العالمية فورًا عن تفاصيل المنتج المتسبب في الخطر، بما يشمل الاسم التجاري، ومصدر التصنيع، وسحب المنتج من السوق، واتخاذ الإجراءات العقابية اللازمة.
لكن في كارثة الميثانول الأردنية، لم تعلن أي جهة رسمية – حتى الآن – عن تفاصيل دقيقة حول هوية المنتج أو علامته التجارية أو الجهات المسؤولة عن تصنيعه وتوزيعه، ما يفتح الباب أمام الإشاعات ويضعف الثقة بمؤسسات الدولة.
الجهات المعنية.. أين المسؤولية؟
الأجهزة والمؤسسات التي يفترض أن تكون في الصف الأول من المواجهة تشمل وزارة الصحة، ووزارة الصناعة والتجارة، ومؤسسة المواصفات والمقاييس، والمؤسسة العامة للغذاء والدواء.
لكن حتى لحظة إعداد هذا التقرير، لم تعلن أي من هذه الجهات تحمّلها لمسؤولية التقصير، ولم يظهر أي مسؤول ليشرح للرأي العام كيف تسربت مادة سامة بهذا الحجم إلى الأسواق، وكيف تُرك المواطنون عرضة للخطر دون تدخل فوري.
غنيمات: أين كانت الدولة حين تسلّل الميثانول إلى السوق؟
وجّه الصحفي طلال غنيمات تساؤلات حادّة إلى الجهات الرسمية، على خلفية الفاجعة التي راح ضحيتها تسعة مواطنين نتيجة تسمم جماعي بمادة الميثانول، مؤكدًا أن ما جرى "يتجاوز حدود الحادث العارض" ويستوجب مساءلة أخلاقية ومؤسسية شاملة.
وقال غنيمات في مقال تحليلي له، إن "الرأي العام الأردني من حقه أن يطرح سؤالًا يلامس الضمير، مفاده: أين كانت الدولة حين تسلّل كحول الميثانول القاتل إلى الأسواق؟"، مضيفًا أن هذا السؤال "لا يقتصر على اللوم المباشر، بل يغوص في عمق المسؤولية الأخلاقية لمؤسسات وُجدت أصلًا لحماية الحياة، لا لحساب الأرباح أو انتظار الكارثة".
وأشار إلى أن مسؤولية وزارة الصناعة والتجارة لا تنحصر في منح التراخيص، بل تشمل بناء منظومة رقابية حقيقية تتابع سلاسل التصنيع والتوزيع، وتمنع تسلل السموم إلى السوق، خاصة في ظل وجود سوق موازٍ للكحوليات يُعرف لجميع الأطراف الرقابية.
وأضاف غنيمات أن "المؤسسة العامة للغذاء والدواء مطالبة برقابة استباقية لا تكتفي بالأوراق الرسمية"، معتبرًا أن دورها يجب أن يشمل التحاليل الدورية والتدخلات الوقائية التي تمنع الغش التجاري، الذي طالما وجد في الثغرات رقعة خصبة للانتشار.
وفيما يخص وزارة الصحة، شدد غنيمات على أن دورها يجب أن يتجاوز علاج الضحايا إلى بناء أنظمة إنذار مبكر تعتمد على مؤشرات علمية، وتحذر المواطنين بلغة صريحة من استهلاك منتجات مشبوهة أو غير خاضعة للرقابة.
أما مؤسسة المواصفات والمقاييس، فقد دعاها غنيمات إلى ممارسة دورها كـ"خط دفاع أخير"، وذلك من خلال فحوصات دورية منتظمة لا ترتبط فقط بردود الفعل، بل تقوم على الوقاية والتشدد الفني في ضبط معايير السلامة.
وتساءل غنيمات: "أما كان بالإمكان إنقاذ هذه الأرواح لو كانت الرقابة أكثر صرامة وجاهزية؟"، مؤكدًا أن "قيمة حياة الإنسان تظل المعيار الأخلاقي الأسمى الذي تُقاس به كفاءة الدولة ومصداقيتها".
وختم قائلا: "الإصلاح الحقيقي لا يبدأ إلا بالاعتراف بوجود قصور أخلاقي، وإعادة بناء منظومة الرقابة برؤية وقائية تضع حماية الأرواح فوق أي اعتبار، قبل أن يصبح الموت خبرًا عاديًا يتوارى خلف الأرقام والتقارير الرسمية الجافة".

