العفو العام يعود إلى الواجهة... مؤشرات يجب أن تؤخذ بالحسبان
قال العميد المتقاعد زهدي جانبيك إن قوانين العفو العام في السياق الأردني تُعدّ ظاهرة تشريعية ذات طابع استثنائي تتداخل فيها اعتبارات سياسية، وأمنية، واقتصادية، واجتماعية، وتكشف أنماطًا من العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين السلطتين التشريعية والتنفيذية من جهة، ومجمل منظومة العدالة من جهة أخرى.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن هذه القوانين صدرت بوتيرة متفاوتة منذ تأسيس الدولة، لكنها لم تكن يومًا بمنأى عن الجدل العام، لا من حيث توقيتها، ولا من حيث مفاعيلها العملية، فعلى مدى العقود، صدرت: أربعة قوانين عفو عام في عهد جلالة الملك عبد الله الأول، بمعدل قانون كل 7 سنوات ونصف تقريبًا، فيما صدر قانون واحد في عهد جلالة الملك طلال بن عبد الله، لتصدر عشرة قوانين في عهد جلالة الملك الحسين بن طلال، بمعدل قانون كل 4 سنوات و8 شهور، مقارنة بأربعة قوانين حتى الآن في عهد جلالة الملك عبد الله الثاني، بمعدل قانون كل 6 سنوات و3 شهور.
وبذلك، يمكن استخلاص المعدل العام لصدور العفو العام في المملكة بمقدار قانون واحد كل 5 سنوات ونصف تقريبًا، في حين لم يكن المعدل خلال فترة الانتداب البريطاني يتجاوز قانونًا واحدًا كل 12 عامًا ونصف، وفقًا لما صرّح به جانبيك.
دلالات التوقيت السياسي لمقترح نواب "العمل الإسلامي"
وذكر جانبيك أن إعلان نواب جبهة العمل الإسلامي مؤخرًا عن تبنيهم لمقترح قانون عفو عام يمثل، من منظور دستوري، تفعيلًا لأداة تشريعية نادرة الحدوث في المسار النيابي الأردني، إذ لم يُسجّل – منذ استئناف الحياة البرلمانية عام 1989 – سوى حالة واحدة لتقديم "اقتراح بقانون"، ولم يُكتب لها النجاح، وبالتالي، فإن خطوة الجبهة تتجاوز بُعدها التشريعي، لتتحول إلى ورقة سياسية تسعى عبرها الكتلة إلى ترسيخ حضورها في المشهد العام، واستعادة مساحات فقدتها خلال السنوات الماضية في ظل تراجع تمثيلها البرلماني وتأثيرها الحزبي.
ومع ذلك، فإن المعطى السياسي الراهن يشير إلى أن الأغلبية البرلمانية ما تزال تميل إلى عدم تمرير أي مبادرة صادرة عن الجبهة، منعًا لمنحها أي مكسب معنوي في الشارع، وهو ما قد يجعل هذه المبادرة مجرّد خطوة استعراضية قابلة للتفريغ أو التعديل البنيوي لاحقًا.
وأردف جانبيك أنه يُنظر للعفو العام بوصفه استثناءً من القاعدة القانونية، يتقاطع في جوهره مع مبدأ سيادة القانون، وفي هذا الإطار، تُظهر الإحصاءات والوقائع أن صدور قوانين العفو العام لم يسهم في خفض معدلات الجريمة أو ردع مرتكبيها، بل على العكس، فإن المنحنى التصاعدي للجريمة، لاسيما الجرائم المرتبطة بالمخدرات، يشير إلى نتائج معاكسة تمامًا للغايات المعلنة من هذه القوانين.
وذكر أن الخطر الأعمق يتمثل في تشكُّل قناعة اجتماعية مفادها أن العقوبات المؤقتة ستُطوى دائمًا بعفو قادم، ما يُضعف من فعالية منظومة الردع العام ويغذي نمط "الانحراف المتكرر" لدى بعض الفئات، ويعزّز ثقافة الإفلات من العقوبة.
من منظور اقتصادي، ينعكس العفو العام سلبًا على مالية الدولة، تحديدًا فيما يتعلق بإيرادات المخالفات والغرامات، إذ يُفضي إلى تقليص حجم العوائد المالية المتأتية من العقوبات المالية، ويُشجّع في المقابل على المماطلة في السداد، في ظل توقّعات دائمة بصدور عفو شامل يُسقط تلك الالتزامات.
وفي ظل التحديات المالية الراهنة، تبدو الحكومة أقل ميلًا نحو التخلي عن أي مصدر دخل ثابت، ما يجعلها – حتى في حال موافقتها – تميل إلى تضييق نطاق الشمول قدر الإمكان، وفق اعتبارات "الكلفة-المنفعة".
وتابع جانبيك أن الأكثر ترجيحًا في المشهد النيابي، هو تمرير المقترح مبدئيًا من حيث الشكل، ولكن مع إحالته للحكومة تمهيدًا لإعادة صياغة مشروع قانون جديد لا يحمل في مضمونه أي مكسب سياسي للجهة التي تبنّته، بل وقد يتضمن هذا المشروع بنودًا تُحرج أو تُربك نواب الجبهة، كاستثناء المخالفات والغرامات من الشمول، أو شمول قضايا مثيرة للجدل، بما يُحوّل الإنجاز الشعبي إلى أداة لمساءلة الجهة التي اقترحته.
أما أمنيًا، فإن صدور قانون عفو عام جديد دون وجود استراتيجية شاملة لإعادة دمج المفرج عنهم أو ضمان ضبط السلوك الإجرامي المحتمل، قد يؤدي إلى تداعيات مجتمعية خطرة، وهو ما يُفسّر التحفّظات الدائمة الصادرة عن الأجهزة الأمنية بهذا الخصوص.
وأشار جانبيك إلى أن خطوة نواب جبهة العمل الإسلامي تكشف عن مقاربة مزدوجة تتمثل في محاولة لاستعادة التوازن السياسي في ظل الانكماش البرلماني، وتوظيف الأداة التشريعية لتحقيق مكاسب آنية، غير أن هذا التحرك، ورغم ما قد يثيره من تفاعل شعبي، يظل رهينًا بحسابات القوى داخل المجلس، وبتقديرات الحكومة الأمنية والمالية.
واختتم حديثه بالقول إن قانون العفو العام يظل أداة ذات حدّين، يمكنها أن ترمم الشروخ المجتمعية إذا أحسن استخدامها، لكنها قد تتحوّل إلى عبء على الدولة إذا تم تسخيرها لأغراض سياسية آنية لا تأخذ في الحسبان المصلحة العامة بكل أبعادها.

